كلهم ضحوا ب«الأم».. ليعيش «الجنين». كلهم كتبوا وغنوا وطبّلوا وحلموا وهتفوا ونفخوا عروقهم (وجيوبهم)، ثم صدّعوا رؤوسنا بمعارك ونقاشات بيزنطية حول الدستور، والتأسيسية، ومرجعية الدولة، و«الشعب الذى يريد.. »، وتواطؤ المجلس العسكرى، وجشع الإخوان، و«اللهم اضرب الإخوان بالسلفيين»، وحصة الثوار من الغنيمة، ورخاوة القوى السياسية، و«نهضة مرسى» الأوسع من مقاسه ومقاس جماعته، وال«ميت يوم.. فى شهر.. فى سنة»، واسترداد الأموال المنهوبة، والقصاص للشهداء.. . كلهم يصرون على أنها «ثورة»، وبنوا لها «مقاماً» فى التحرير!. حتى أولئك الذين أضيروا، وخاب أملهم فى ثوارهم ونخبتهم و«تحريرهم» و«مشيرهم» و«مرسيهم» و«شرفهم» و«قنديلهم»، صلوا وسلموا وآمنوا بأنها «ثورة»، وجرت الكلمة على ألسنتهم كما لو كانت وحياً يوحى! ثم مات «الجنين» ولم يبق منه إلا الاسم وتاريخ الميلاد: «ثورة 25 يناير 2011». وباسم هذا الجنين، باسم هذه الثورة المشئومة، تحولت مصر كما ترى إلى خرابة ينعق فيها «بوم» الفضائيات الدينية، وتسرح بين أنقاضها فئران وثعابين وعقارب «أمن الدولة». عشرون شهراً تقريباً -منذ «جمعة التنحى»- وأنا أحاول إقناع نفسى بأن ما جرى يمكن أن يسمى «ثورة»، لكننى لم ولن أقتنع. عشرون شهراً ونحن مهددون فى أرواحنا وأرزاقنا وأبنائنا وأعراضنا وممتلكاتنا وأحلامنا البسيطة. عشرون شهراً والحابل مختلط بالنابل: لم نعد نعرف من يحكم مصر وكيف: الشارع، أم القانون؟ المجلس العسكرى أم مزرعة سجن طرة؟ النخبة أم الألتراس؟ الولاياتالمتحدة «كلها»، أم ولاية «قطر العظمى»، محمد مرسى أم المرشد؟ لم نعد نعرف مَن الثائر ومَن البلطجى!. مَن الأحق ب«ثواب الشهادة» وقصاصها: الشاب الذى دهسته مصفحة أو اصطاده قناص وهو يحلم ب«وطن» يتشرف بالانتماء إليه.. أم «الصايع»، «المستبيع»، الذى قضى طمعاً فى الفوز ب«طبنجة ميرى»، مقابل علبة سجائر ومكان لأسرته فى طابور المطالبين ب«دية» موته؟ هل كان حرق المجمع العلمى، وانتهاك المحاكم وأقسام الشرطة، وتفجير أنابيب الغاز، وقطع الطرق، وتعطيل مصالح الناس، و«تثبيتهم»، والمشى عكس الاتجاه، واستباحة كل ما هو خاص وعام، والنوم على أرصفة الحكومة وقضبان قطاراتها، والهوس بالإضرابات والاعتصامات والوقفات و«القعدات» الاحتجاجية.. هل كان ذلك «تغيير نظام» أم «هدم دولة»؟ لم نعد نعرف من الذى خان هذه الثورة: طنطاوى و«عنانه» ومجلسه العسكرى، أم أولئك الذين قتلوا جنوداً «مصريين» فى «مغرب رمضانى» على حدودنا مع العدو (الذى لم يعد مع الأسف تقليدياً)؟ وأى الشعارات نصدق: «الجيش والشعب إيد واحدة»، أم «يسقط.. يسقط.. حكم العسكر»؟ ماذا تسمى عجرفة الإسلاميين وعدوانيتهم تجاه خصومهم ومنافسيهم وكأن مصر أصبحت «جارية» فى كنف «بديعهم» و«شاطرهم» و«مالكهم» و«عريانهم» و«برهاميهم» و«مخيونهم» و«بلكيمهم» و«ونيسهم»؟ وماذا تسمى انقسامهم على أنفسهم، ثم انقلابهم على حلفاء الأيام الثمانية عشر الأولى من عمر هذه الثورة: أهو حراك ثورى.. أم «ما شافوهمش وهمّا بيسرقوا.. شافوهم وهمّا بيقسموا»؟ ماذا تسمى خطاب «دعاتهم» الذى بلغ أحياناً حد الفجاجة والابتذال: أهو إرهاب.. أم «رومانسية ثورية»؟ ومن الذى «يمثل» الغريزة بحق: «رذيلة» إلهام شاهين «المفبركة».. أم «فضيلة» الشيخ على ونيس، نائب البرلمان «الكتاتنى» المنحل، عن حزب «النور» المنشق على نفسه، وعلى «إخوانه» و«أزهره» و«إفتائه».. بل و«متصوفيه»؟ حتى ميدان التحرير، الميدان الذى كان حلماً ب«هايد بارك»، تحول إلى «كنيف» يتغوط فيه «الصيّع» وخرتية وسط البلد والمسجلون وذباب العشوائيات وباعة الحشيش وحمص الشام والنازحون من أحراش الدلتا والصعيد وشظايا حركات الاحتجاج.. فأين «الثورة» فى كل هذا؟ ستقول -رغم يقينك بأنها أصبحت «ثورة شك».. لا «ثورة شعب»، وعبّك تلعب فيه كل هذه الفئران- إننى أعمى، لأن هذه الثورة أصبحت أمراً واقعاً يقترب من سنته الثانية، وسأدخل النار لأننى كفرت -والعياذ بالله- ب«إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر»! ستقول -وكبرياؤك الآن فارغ ومقلوب ومدلدل على جانبى فخذيك كجيبى بنطلونك- إننى لست فقط أعمى، وكافراً ب«إرادة الشعب».. بل جاحد أيضاً، إذ يكفى أن هذه الثورة أسقطت مبارك ونظامه الذى قهرك وجوّعك وأمرضك وأكل حقوقك، وهذا يعنى أن «مصر تغيرت»، ومن ثم ذهبت إلى مستحقيها!. ستسألنى -وكف «إخوانك» الذين بعت لهم صوتك ب«كرتونة زيت وسكر» وبواقى «توحيدهم ونورهم» لا تزال مطبوعة إصبعاً إصبعاً على قفا سيادتك: لماذا تستكثر على الإخوان أن يحكموا يا عدو الله والديمقراطية؟ لماذا تكرههم؟ ألم يحصلوا عليها بشرف ونزاهة؟ ألم يهزموا «فلولك» بالقاضية؟ ألم يناضلوا ويتعذبوا ويُلقَى بهم فى غياهب السجن أكثر من ثمانين عاماً؟ ولأننى تربية «ستينيات» عبدالناصر -بزهوها وشجنها وأدبها وعدلها وأوهامها الجميلة وصدقها حتى وهى تكذب- سأرد عليك بأحسن منك... فانتظرنى.