ويمر عام.. وفى مدينة قونية بتركيا صحت «إيلا» من نومها على كرسى بلاستيكى بقرب سرير «عزيز»، وفتحت عينيها فجأة على صوت أذان الفجر، واستغرقت دقائق حتى تدرك أنها فى غرفة المشفى الذى دخله عزيز عقب وصولهم قونية بأربعة أيام لتدهور صحته وتعرضه للإغماء المفاجئ. أضاءت مصباح الغرفة، وأصبحت تنظر إلى ما حولها بتأمل، إنه ليس منزلها الذى تركته قبل عام فى نورثامبتون، وذلك الرجل الممدد على السرير أمامها ليس «ديفيد» زوجها، بل هو «عزيز» الذى تركت عالمها من أجله والذى بسببه لامها أصدقاؤها وجيرانها. رسالة: امضِ فى أمرك الخاص كما ترى أنت، وكما تحب أنت، وكما ترغب أنت، ولا تسمح لكائن من كان بسرقة أيامك وأحلامك وسعادتك، فقط أرضِ الله أولاً وأخيراً، وحينها سوف يرضى الجميع. وامتدت عينها تراقب باقى المشهد: سرير يكاد يلتهم الغرفة الصغيرة، وكرسى إضافى، ومزهرية فارغة، ودولاب، وطاولة عليها كتاب كان يقرأه «عزيز»، (أنا والرومى)، وكانت «إيلا» تترقب ما سوف يحدث بحذر وتتشاجر مع الله فى صمت لأن تلك النعمة الكبرى التى جاءت متأخرة والمتمثّلة فى «عزيز» هى على وشك الانتهاء رسالة: إن رأيت سعادتك تتسرب من بين أصابعك لا تفزع ولا تقاوم بعنف فتكسر يدك، يمكنك أن تحزن، ولكن حاول تقبُّل القدر بطرقك الخاصة، وهى عديدة. وبهدوء ودون الرغبة فى إزعاج «عزيز» قالت: «عزيزى، هل أنت نائم؟». ولم تتلق رداً سوى تغيُّر إيقاع تنفسه، ورفعت صوتها قليلاً: «هل أنت مستيقظ؟»، فأجاب أنه استيقظ الآن لتوه، وسألها إن كانت لم تنم!! فأجابته أن سبب استيقاظها هو سماع صوت أذان الفجر، وفى الحقيقة كانت أسباب الأرق كثيرة: تدهور صحة «عزيز» وخوفها عليه وكذلك القلق المصاحب للعشق، والغربة والحياة الجديدة وذكريات الماضى ومخاوف الغد!!! كلها أشياء من شأنها قتل النوم ودحر الراحة إلى الأبد، فاعتدل «عزيز» جالساً، وفى ضوء المصباح الخفيض وبعينيه الخضراوين بدا جميلاً هادئاً شاحباً، وقال: هل تعرفين أن صلاة الصبح تحديداً أكثرها قداسة واختباراً عند المسلمين؟! فسألته: لم؟! فأجابها: لأنها توقظنا من أحلامنا ونحن لا نحب ذلك بل نحب إكمال النوم، لهذا كانت عبارة «الصلاة خير من النوم»، وهنا تذكرت «إيلا» أنها تشتاق إلى النوم الهادئ وتمنته لكليهما هى وعزيز. رسالة: إن الحب القوى والصادق المخلص يجعلك تنفض النوم والراحة والاستقرار نفضاً ولا تبالى. وتوقف الأذان، وجاء الصمت، وعاد «عزيز» للنوم، وكان وجهه «هادئاً وعزيزاً»، أما هى فكانت تراقبه وتذكرت كيف مر عام كامل، حيث كانت صحته خلاله جيدة، فسمحت لهما بالسفر والترحال معاً حتى بدأت فى التدهور الأسبوعين الماضيين، وتنهدت بعمق، وخرجت من الغرفة، ومشت فى الممرات المطلية باللون الأخضر، وزارت عدة أجنحة، ورأت أحوال المرضى المختلفة بين مسن وشاب وطفل، وبين متعاف من المرض أو قعيد أو آخر عليه أجهزة. ومع أنها بدت غريبة بعينيها الزرقاوين وشعرها الأشقر فإنها لم تبال بفضول النظرات. رسالة: إن موت غيرك أو مرضه أو معاناته أو حتى سعادته وتفوقه وازدهاره ما هى إلا رسائل لك أنت شخصياً، فلتفهم رسائلك وتتلقّها بعناية فهى مهمه. رسالة: أحياناً يكون فضول الناس حولك حباً وإعجاباً، وأحياناً يكون حقداً واستغراباً، فاستقبل الحب بالحب. أما الحقد فاستقبله بالتسامح والحب فينقلب الاستغراب هياماً وإعجاباً. وأخذتها قدماها إلى بركة ماء فى حديقة المشفى الصغيرة اللطيفة، وكان فى وسط البركة تمثال لملاك صغير، وتستقر فى قاع البحيرة قطع نقدية لتحقيق الأمانى، حينها بحثت «إيلا» فى جيوبها فلم تجد إلا قصاصات ورق، لكنها بحثت بعينيها حولها فوجدت بعض الحصى الناعمة السوداء البراقة وهمست بأمنيتها اليائسة البائسة، فارتطمت الحصاة بحائط البركة وارتفعت ثم سقطت فى حضن الملاك المصنوع من الحجر فقالت فى نفسها: «لو كان عزيز هنا لرأى فيها علامة». وبعد نصف ساعة تقريباً عادت «إيلا» لغرفة «عزيز»، فوجدت....