وبعد أن وقع نظرها على عزيز واحتست معه فناجين القهوة واحداً بعد الآخر انسحبت فى دوامة لم تعرف كيف ولا متى بدأت، فى الحقيقة هى لم ترغب فى منع نفسها من ذاك (الضياع الحلو) ولهذا لم تعرف كيف تحول الحوار بينهما آخذاً نبرة حميمية وبهذه السرعة، حتى إنها لم توقفه عندما قبّل طرف إصبعها ولم تنهره وهى المحافظة الملتزمة، فهى بعد هذه اللحظة لا تكترث لأحد أو لأى شىء، ف«عزيز» أمامها يتحدث؛ إذن فعلى الدنيا السلام.. كما أن تلك الغمازة الصغيرة على طرف فمه تداعب خيالها الذى خلع رداء الخجل وارتدى الجنون والانطلاق، وتفكر ماذا لو قبلت هى الأخرى تلك الغمازة؟! بالله عليك إيلا ماذا دهاك! إيلا ورجل غريب فى بهو فندق الساعة العاشرة والنصف ليلاً.. رجل لا تعرف عنه شيئاً سوى بضع مراسلات إلكترونية وبعض المكالمات الهاتفية ورواية كتبها هو وقرأتها هى.. باغتته إيلا بجملة: «إذن، أتيت من أجل مجلة سميثونيان؟!»، فأجاب عزيز كما أرادت وأراد لها الهوى: «لقد أتيت من أجلك، فبعد أن قرأت رسالتك أردت أن آتى لرؤيتك». إلى الآن كل شىء طبيعى وعادى وربما مر مرور الكرام، فتلك الأمور تحدث يومياً بين بنى البشر، تراسل اثنان لفترة وتبادلا رسائل عادية فى مواضيع شتى وتخلل هذا مشاعر لطيفة ودودة بينهما وولد هذا الأمر بينهما فضولاً لأن يقابلا بعضهما وبالفعل تقابلا، كان كل شىء يمكن تجاوزه وتخطيه.. امرأة مرت بظرف خيانة زوجها لها فأفقدها هذا الكثير ومنحها الأكثر فخرجت من تجربتها القاسية امرأة مختلفة وأقوى وأكثر حكمة وربما أكثر تعقيداً وغضباً.. المهم أنها أصبحت شخصية مختلفة، لكن الأمور لم تتوقف ولم يكن كل شىء عادياً فدائماً كان هناك تلك الصلة بين إيلا وعزيز، وقد قطع عليها عزيز وعلى نفسه تمرير الأمر وكأنه شىء عادى وقال «هل تريدين أن تأتى لغرفتى؟!». هنا وضع عزيز حداً لكل ما مضى وكل ما هو آتٍ.. الآن لا مجال إلا للقرار «نعم» أم «لا». وما حدث مع إيلا كان شيئاً خاصاً جداً بها وبأفكارها ومعتقداتها فقد شعرت بتوتر شديد وألم بالمعدة وبالرغم من هذا لم ترفض عرضه بل شعرت أن القرار قد اتخذ نيابة عنها وأنها فقط تنفذ، ودخلت غرفة الفندق الملونة بالأحمر والرمادى والبيج والأسود، حجرة دافئة ومتسعة. وعلى الفور تداعى إلى ذهنها صورة ذهنية لآخر فندق زارته مع أسرتها، فحينها كانت تشعر بالضيق من فكرة الإقامة بفندق فى بلادها وكأنها فى بلد آخر، لكن الآن ومع عزيز حضر شعور مختلف فقد أراحها ذلك الشعور بالاغتراب وبأن القيود أصبحت أخف والحرية أكثر، وما أعقدها مقارنة. رسالة: إن بعض الممارسات فى الحياة تكون حلوة عذبة مع أشخاص بأعينهم ومثل هذه الممارسات والفعاليات نفسها تكون مملة مضجرة مع غيرهم. رسالة: أحيانا تحتاج أن تعيش بروح السائح فى بلادك فقط للحصول على بعض الحرية والانطلاق. لكن الراحة والحرية اللتين شعرت بهما إيلا قد اختفتا على الفور ودب مكانهما شعور آخر مضاد وهو شعور الذنب والخجل والخوف، خاصة عندما وقفت بقرب السرير الكبير المتمركز فى منتصف الحجرة، كأنه سيد الموقف وبطل المشهد، وتساءلت: «ترى، هل ستكون بينهما علاقة خاصة الآن.. هل ينبغى لهما أن يفعلا ذلك؟! وإذا فعلا فكيف يمكنها أن تنظر فى عينى زوجها بعدئذ؟.. ولكن ديفيد لم يكن يجد صعوبة فى النظر فى عينيها على الرغم من علاقاته الغرامية المتعددة أليس كذلك؟ وماذا سيكون رأى عزيز بها كامرأة؟ ماذا لو لم تعجبه، ألا ينبغى لها أن تفكر بأطفالها الآن هل هم نائمون أم...؟!».. وتعاودها أسئلة الضمير المُهلك: «ماذا بشأن أبنائها وهل سيسامحونها إذا هى فعلت شيئاً مع عزيز؟!». لكن شهامة عزيز لم تتركها لتلك الأسئلة المعذبة، ربما قرأ أفكارها أو سمع موجات اضطرابها «تحت السمعية» وعلى الفور أمسك يدها وقادها نحو كرسى مريح فى زاوية الحجرة بعيداً عن ذاك السرير الشرير الذى أتى بكل هذه الأشباح، وهمس قائلاً «اصمتى، إن عقلك يعج بالأفكار وتتعالى فيه أصوات كثيرة».. وهنا ردت إيلا «ليتنا التقينا منذ فترة مبكرة»، فأجابها عزيز: «ليس فى الحياة شىء يدعى فترة مبكرة أو متأخرة فكل شىء يحدث فى حينه»، فأجابته: «هل تظن ذلك حقا؟!». رسالة: لا شىء يحدث فى هذا العالم دون سبب ودون توقيت محدد دقيق، كل شىء بقدر وبأوان ولغاية وهدف، لا شىء تأخر، فقط نحن من يتعجل ولكى نحصل على الفرح يجب أن نمر بطريق الآلام. وكانت إجابة عزيز ابتسامة هادئة مطمئنة بها أمان العالم واجابات الكون، وفتح حقيبته وأخرج منها البساط الذى اشتراه لها من جواتيمالا وعلبة صغيرة فيها قلادة فضية مرصعة بالفيروز والمرجان الأحمر ومزينة بصورة درويش يدور حول نفسه، ووضع عزيز القلادة حول رقبتها، وأحبت إيلا هديتها كثيراً وسألته هل أبدو كما كنت تتوقع؟! فأجاب: «لقد أحببتك»، فقالت: لكنك لا تعرفنى! فأجاب: «ليس من الضرورى أن أعرف حتى أحب».. تنهدت إيلا وقالت: هذا جنون. فمد يده وأزال الدبوس الذى كان يمسك شعرها فى شكل كعكة فانفلت على كتفيها ثم قادها برفق نحو السرير وببطء وبرقة راح يتمتم هامساً كأنه يدعو لها ويبتهل من أجلها، وتأثرت إيلا جداً بلمساته وتعويذاته فباتت مستسلمة مبتسمة، وحينها أدركت أنها قد تحب هذا الرجل، وطوّقته بذراعيها جاذبة إياه نحوها، وكانت مستعدة لتطور الأمور إلا أنه فتح عينيه وقبّلها على أنفها وابتعد عنها، فقالت له: «إنك لا ترغب بى»، فأجاب أنه لا يريد فعل شىء يجعلها حزينة فيما بعد. وفى تمام الواحدة والنصف ليلاً وصلت إيلا إلى شقة العائلة ببوسطن ولم تنم على السرير الذى كان ديفيد يخونها عليه مع الأخريات، بل نامت على أريكة صغيرة فقد شعرت أنها من الليلة ضيفة فى هذا البيت، وأن إيلا الحقيقية روحها هناك فى مكان آخر.