نتيجة لتدنى الثقافة العامة، وعلو فئات اجتماعية هشّة، وخروج العقول المغلقة من جحورها، وسيطرة المصالح الفردية الضيقة، وتراجع النخب الحقيقية عن دورها مؤثرة السلامة، تحوّل المشهد العام إلى جو من المهاترات الرخيصة. وبنظرة واحدة على مواقع التواصل الاجتماعى، تجد كيف تركت طائفة من المصريين أعمالها لتتفرّغ للسب والقذف ونشر الغسيل القذر لصراعاتها المميتة من أجل التشفّى من خصومهم. وهكذا جاءت مواقع التواصل الاجتماعى لتصبح منابر للغوغاء، وأيضاً للكتائب العميلة ضد الوطن. وفى مثل هذا الانفتاح المعلوماتى والقدرة السريعة على التواصل، تجد الشائعات أرضاً خصبة لها ضد الأفراد وضد الدولة، كوسيلة سوداء لتحطيم المعنويات، واصطياد الحقائق، والتغطية على الحرائق والتفجيرات، والقضاء على مصداقية كل شريف، وإيقاعه فى دائرة التفكير المضطرب، وتشويه صورته، أو رسم الهالة حول الذات. صارت الشائعات جزءاً من فن السياسة، وفن الحرب، وفن الإعلام والترويج التجارى والفنى، وأساليب الصراع الاجتماعى والمهنى؛ وأصبحت قدراً اجتماعياً وسياسياً لا مفر منه؛ فمن منا لم يتعرّض لشائعة أو أكثر فى يوم من الأيام؟ والمشكلة الكبرى الآن أن الدولة نفسها وجيشها العتيد ضحية شائعات ضخمة ومنظمة يبثها المرجفون من أجل زعزعة مصر وتهيئتها للدخول إلى حالة التفكّك التى تسمح بتحويلها إلى سوريا أو ليبيا. والشائعات -حسب المعنى العام- هى الأخبار الملفّقة أو المفتعلة ضد فرد أو جماعة أو دولة، وهى تقصد للترويج إلى شىء غير حقيقى. ويطلق على عملية إطلاق الشائعات ونشرها «الإرجاف»، فالإرجاف هو إشاعة الأخبار الكاذبة المسيئة. وهو مشتق من الرجف والرجفان وهو الاضطراب والتزلزل؛ فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار أو يصنعونها أو يحرّفونها زيادة ونقصاناً، ويتحدثون بها على مواقع التواصل الاجتماعى أو فى القنوات أو الجرائد أو غيرها. ومعنى الإرجاف هنا: أنهم يرجفون بما يؤذى الآخرين ويؤدى إلى إيجاد حالة من الخوف والتشكّك فى نفوس الناس وسوء الظن، سواء فى بعضهم البعض أو فى دولتهم أو جيشهم أو مؤسساتهم. وهؤلاء هم الطابور الخامس وأذناب الجماعات الإرهابية وطائفة من المنافقين والذين فى قلوبهم مرض، ومثل هؤلاء متكرّرون فى كل عصر، وهم الذين قال القرآن فيهم: «وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ» (النساء: 83). وقد عانت دولة الرسول الناشئة فى المدينة من هؤلاء المرجفين، ونزلت فيهم آيات القرآن راصدة للظاهرة ومعالجة لها؛ لأنها ظاهرة تتكرر فى كل العصور ومن ثم تحتاج إلى معالجة دوماً. وربما يروق للقارئ الكريم أن أنقل له جزءاً من تعليق الفخر الرازى على هذه الآية، يقول: «اعلم أنه تعالى حكى عن المنافقين فى هذه الآية نوعاً آخر من الأعمال الفاسدة، وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور، سواءٌ كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوه وأفشوه، وكان ذلك سبب الضرر من وجوه: الأول: أن مثل هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير. والثانى: أنه إن كان ذلك الخبر فى جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء فى صدق الرسول عليه السلام.. وإن كان ذلك فى جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده فى الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سبباً للفتنة من هذا الوجه. الوجه الثالث: وهو أن الإرجاف سببٌ لتوفير الدواعى على البحث الشديد والاستقصاء التام، وذلك سببٌ لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة. الرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار، وكان كل واحد من الفريقين فى إعداد آلات الحرب وفى انتهاز الفرصة فيه، فكل ما كان أمناً لأحد الفريقين كان خوفاً للفريق الثانى، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك، فوصل الخبر فى أسرع مدة إلى الكفار، فأخذوا فى التحصُّن من المسلمين، وفى الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا فى ذلك، وزادوا فيه وألقوا الرعب فى قلوب الضعفة والمساكين، فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشأ الفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه». إذن هى أكاذيب تُنشر من أجل إيجاد حالة من التشويش والحيرة والاضطراب وإضعاف الروح المعنوية للمجتمع بعامة والجيش بخاصة، مما يساعد على حدوث الفتن التى إن وقعت تحوّلت مصر إلى ساحة حرب أهلية أو حرب عصابات. وتستهدف هذه الشائعات من بين ما تستهدف اصطياد المعلومات؛ حيث إن الرد على الشائعات يؤدى إلى إظهار أسرار قد تتعارض مع الأمن القومى. وعندما تتصدّر الشائعات المشهد، وتتعلق من حيث الكيف والكم بالأمن القومى للبلاد وتعريضها للاضطراب والفتن، هنا يقدم القرآن الحل: «لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا. مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» (الأحزاب: 60 - 61).