الإشاعات الكاذبة ومحاربة الإسلام لها د. محمد سيد طنطاوي ان شريعة الإسلام قد حاربت الاشاعات والاراجيف التي ينفثها الذين في قلوبهم مرض, حربا لا هوادة فيها, وشرعت من الوسائل ما يقضي علي هذه الاشاعات الكاذبة, وما يجعلها لاتقوم لها قائمة, ومن أهم هذه الوسائل: التثبت من صحة ما يقال وما يسمع, حتي يعيش المجتمع في أمان واطمئنان, ويعيش أبناؤه وقد عمتهم الثقة فيما بينهم. ومن الآيات القرآنية التي امرت المؤمنين من التأكد من صحة ما يصل إليهم من اخبار ونهتهم عن الاستماع إلي الاشاعات والاراجيف, قوله تعالي يا أيها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا علي ما فعلتم نادمين سورة الحجرات: الاية6. الآية الكريمة ترشد المؤمنين في كل زمان ومكان إلي التثبت من صحة ما يصل إليهم من اخبار, وان ينبذوا الاشاعات السيئة حتي تعيش الأمة في أمان واطمئنان, دون ان يعتريها شيء من الاضطراب أو انتزاع الثقة بين افرادها. كذلك من الوسائل التي شرعها الاسلام لمحاربة الاشاعات الكاذبة: رد الأمور إلي مصادرها الصحيحة وسؤال أهل الذكر الامناء, عما خفي من أخبار وأنباء, استجابة لقوله تعالي فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون. ولقد كان المنافقون في العهد النبوي يتصيدون الاخبار السيئة من أمثالهم, فيذيعون ان العدو قد اصاب من المسلمين, كذا, وان السرية التي ارسلها النبي صلي الله عليه وسلم إلي قبيلة كذا قد هزمت وقتل أفرادها, إلي غير ذلك من اراجيف واباطيل كان يذيعها المنافقون ومن في قلوبهم مرض عن النبي صلي الله عليه وسلم وعن اصحابه, لنشر الاضطراب والفتن في صفوف المسلمين وقد ذم الله تعالي المنافقين ذما شديدا علي هذا السلوك القبيح ونهي المسلمين عن الاستماع إليهم, ومن الآيات القرآنية التي وردت في ذلك قوله تعالي وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف اذاعوا به ولو ردوه إلي الرسول وإلي أولي الأمر منهم, لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا سورة النساء:83. والآية الكريمة قد جاءت في سياق الحديث عن المنافقين, وعن مسالكهم الخبيثة لكيد المؤمنين. ورحم الله الامام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية, في هذه الآية إنكار علي من يبادر إلي الأمور قبل تحققها, فيخبر بها ويفشيها وينشرها, وقد لايكون لها صحة وفي الحديث الصحيح كفي بالمرء كذبا ان يحدث بكل سمع وفي حديث آخر انه صلي الله عليه وسلم نهي عن قيل وقال. كذلك من أهم الوسائل التي جاء بها الإسلام للقضاء علي الاشاعات والاراجيف: محاربتها بالمنطق السليم وبالبرهان الساطع وبالدليل الناصع, وبالحجة البالغة. وذلك لان الاشاعة قد تحمل تكذيبها بذاتها, ولكن الذين في قلوبهم مرض يصدقونها لأنها توافق ماجبلوا عليه من كراهية لدينهم أو لأوطانهم أو لغيرهم من الشرفاء الأمناء. اما العقلاء فانهم يقفون مما يسمعونه موقف الناقد البصير, ولايصدقون ما يقوله بعض الناس في غيرهم الا اذا سمعوا حجة ذلك الغير, ثم يوازنون ويحكمون بالحكم العادل النزيه. ومن أهم الوسائل التي اتبعها الاسلام لمحاربة الاشاعات والاراجيف: ارشاده المسلمين إلي ان يحفظوا السنتهم عن الكلام اللغو, ودعوته إلي نشر القول الطيب فيما بينهم, ونهيه عن اني يسيء المسلم إلي غيره وحمل امره علي الصلاح مادام يجد لذلك محملا, وكتمان كل ما من شأنه إلحاق الضرر بالفرد أو الجماعة. وقد توعد القرآن الذين ينشرون الاشاعات والاراجيف التي تؤذي البرءاء في اعراضهم أو كرامتهم بأشد ألوان العقاب, وأعظم أنواع العذاب. ومن ذلك قوله تعالي إن الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لاتعلمون سورة النور: الاية19. وقوله سبحانه لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لايجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا, سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا الاحزاب: الاية60 62. اي: لئن لم يكف المنافقون واشباهم من مرضي القلوب الذين ينشرون اخبار السوء عن المؤمنين, ويلقون الاكاذيب الضارة بهم, ويذيعونها بين الناس, لئن لم يكفوا عن قبائحهم هذه لنسلطنك عليهم: أيها الرسول الكريم فتستأصلهم بالقتل والتشريد, ثم لايبقون بعد ذلك مجاورين لك الا زمنا قليلا, وهم ملعونون ومطردون من رحمة الله بسبب سوء افعالهم, فاذا ما اخذوا أساري أذلاء, قتلوا قتلا شديدا, وتلك سنة الله تعالي في كل من يحب ان تشيع الفاحشة في الذين امنوا وفي كل من يسعي في الارض بالفساد. ولقد كان سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم القدوة الطيبة في الحرص علي تقوية الثقة بين اتباعه, وفي تثبيت الاخوة الصادقة فيهم, فقد كان يقول صلي الله عليه وسلم لاتبلغوني عن اصحابي شيئا أكرهه فاني أحب أن أخرج إليكم وانا سليم الصدر. وكان صلي الله عليه وسلم يحرص كل الحرص علي ان يظهر المسلمون امام اعدائهم بمظهر الاقوياء في كل مظهر من مظاهر حياتهم, فعندما اشاع المشركون في عمرة القضاء ان المسلمين قد اصابهم الضعف والمرض لإقامتهم في المدينة, وبلغ النبي صلي الله عليه وسلم ذلك قال لأصحابه: رحم الله امرأ اري القوم قوة من نفسه وأمرهم بأن يطوفوا بالكعبة بكل قوة وشدة. وكان صلي الله عليه وسلم يحرص كل الحرص علي أن ينشر الاخبار السارة بين اصحابه, اما الاخبار الضارة, فكان يأمر بكتمانها وعدم إذاعتها لاسيما في أوقات الحروب, فعندما بلغه ان بني قريظة قد نقضوا عهودهم, قال لبعض اصحابه انطلقوا حتي تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أولا, فان كان حقا فالحنوا لي لحنا اعرفه اي اشيروا باشارة انا وحدي اعرفها ولاتفتوا في اعضاء الناس, وان كانوا علي الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس. وبعد: فان الاشاعات الكاذبة, والاراجيف الباطلة, سلاح خطير يفتك بجسم الامة ويفرق بين أهلها, ويسيء ظن بعضهم ببعض ويؤدي إلي نشر العداوة والبغضاء بين الافراد والجماعات فيجب علي كل عاقل ان يحاربها, بحسن الظن, وبالتثبت من صحة ما يقال وما يسمع, وبالمنطق السليم, والفكر المستنير, وبالحرص علي النطق بالكلام الذي مدح الله اصحابه بقوله وهدوا إلي الطيب من القول وهدوا إلي صراط الحميد نسأل الله تعالي ان يجعلنا جميعا ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه. عن صحيفة الاهرام المصرية 20/9/2007