لم تستقبل وزارة الخارجية التسريبات عن اتجاه الحكومة لتقليص البعثات الدبلوماسية ورواتب الدبلوماسيين فى الخارج فى صمت، تحرك أصحاب الياقات البيضاء بشكل سريع، شمل عدة اجتماعات للنادى الدبلوماسى أحدها مع وزير الخارجية محمد كامل عمرو لتوصيل رسالة واضحة «لن نسكت»، فيما تبدو بوادر أزمة خطيرة، تنعكس على صورة ووزن مصر فى العالم، هذا الملف الشائك الذى تفتحه «الوطن» قبل أن تطيح كرة الثلج بأحد أجهزة الأمن القومى المصرى. يصل التمثيل الدبلوماسى المصرى إلى 163 بعثة دبلوماسية حول العالم، ما بين بعثة مقيمة وغير مقيمة، تمثل مصر لدى دولتين أو أكثر، ومقسمة ما بين سفارة وقنصلية عامة وقنصلية ومكاتب تمثيل فى الأممالمتحدة، وهذه البعثات تحمل ميزانيتها على وزارة الخارجية التى تحصل على ما يقرب من مليارى و100 مليون جنيه مصرى من الموازنة العامة للدولة، فى المقابل تورد «الخارجية» ما يقرب من مليار و300 مليون لخزينة الدولة من «المتحصلات القنصلية». بالإضافة إلى ذلك لدى مصر 79 مكتبا فنيا حول العالم، ما بين ملحقيات عسكرية وإعلامية وثقافية، ولا تتحمل تكلفتها وزارة الخارجية فى حين تتحمل الاضطلاع بمهامها فى الدول التى لا توجد بها مكاتب فنية. وتمتلك وزارة الخارجية 60% من مقرات البعثات التى يعود بعضها إلى العهد الملكى إذ كانت «الخارجية» إحدى «النظارات» التى أنشأها محمد على وهو يؤسس الدولة المصرية الحديثة وعرفت شكلها الحالى منذ عهد الخديو توفيق الذى يعد عهده بداية لتأريخ وزراء خارجية مصر الذين وصل عددهم إلى 55 وزيرا، بداية من حسين باشا رشدى وصولا إلى وزير الخارجية الحالى محمد كامل عمرو، وعادة ما توجد البعثات التى تعود للعهد الملكى فى دول أوروبا القديمة بالإضافة إلى واشنطن وإسطنبول، حيث تشغل القنصلية المصرية قصر والدة الخديو إسماعيل ويعرف بقصر الوالدة باشا. أما التوسع فى تملك البعثات فيعود للدكتور كمال حسن على رئيس الوزراء الأسبق صاحب الفضل الأول فيه عندما أنشأ داخل وزارة الخارجية هيئة تعرف باسم «هيئة تمويل المبانى» تكون مهمتها شراء المقرات الدبلوماسية وتجهيزها وصيانتها باعتبار أن هذه المقرات تمثل أصولا اقتصادية لمصر فى الخارج وبالفعل تقدر حاليا أصول مصر الخارجية بما يتجاوز المليار دولار، ومن بينها من يتضاعف ثمنه مثل مقر السفارة المصرية فى روما الذى اشترته الحكومة المصرية عام 1994 بأربعة عشر مليون دولار ويقدر الآن بحوالى مائة مليون دولار وهو عبارة عن قصر ملكى يمتد على مساحة 35 ألف متر مربع فى وسط العاصمة الإيطالية. أما البعثات المتبقية فتقوم وزارة الخارجية باستئجارها عن طريق لجان حكومية تضم الأجهزة المعنية فى الدولة، خاصة الجهات الرقابية ومجلس الدولة وعادة ما يتم اختيار المقر فى الأحياء الدبلوماسية داخل مختلف العواصم ويتم الاختيار بين عروض مختلفة، وتخضع البعثات الدبلوماسية لتقييم إدارى داخلى فى وزارة الخارجية يصنفها إلى أربع درجات هى «أ»، «ب»، «ج»، «د»، ويعتمد هذا التصنيف على ظروف المعيشة داخل هذه الدولة أو تلك وليس على التقدير السياسى للعواصم أو أهميتها من الناحية الاستراتيجية فتقيّم على سبيل المثال الخرطوم على أنها من الفئة «ج» وتقيم موسكو بسبب ظروفها المناخية على أنها من الفئة «ب» وهى نفس الفئة التى تتمتع بها بعثة مصر القنصلية فى «دبى» وعلى هذه الأسس يتم تحديد راتب الدبلوماسى، حيث يتم تحديد معدل الغلاء فى العاصمة التى يعمل بها وأسعار السكن والسيارات والمدارس والجامعات التى قد يدرس بها أبناؤه ولا ينقل الدبلوماسى من بعثة من الدرجة «أ» إلى مثيلتها من نفس الدرجة إلا إذا خدم فى بعثة أخرى من الدرجات الأدنى أو أن يظل داخل الديوان العام فى القاهرة لمدة أربع سنوات فينقل حينها إلى بعثة من نفس الدرجة ولكن تخضع أيضاً هذه العملية لتقدير الإدارة. وفى هذا الإطار يتراوح راتب السفير من عشرة آلاف دولار ويصل إلى عشرين ألف دولار شهريا، وهو أعلى راتب ويحصل عليه سفير مصر لدى اليابان وذلك بسبب الغلاء فى اليابان التى يصل فيها كيلو اللحم إلى حوالى 400 دولار أمريكى، أما بقية أعضاء البعثة فتبدأ رواتبهم من 3 آلاف دولار إلى ثمانية آلاف دولار على حسب الدرجة الدبلوماسية وتدخل فيها بنود السكن والسيارة والتعليم لأبناء الدبلوماسى. ووفقا لأطر العمل الداخلى فى وزارة الخارجية فإن هذه الرواتب محل محاسبة، حيث يخضع كافة الدبلوماسيين المصريين لتقرير سنوى «سرى» يقوم بإعداده رئيس البعثة ويتضمن بنودا محددة فى حق الدبلوماسى وهى مستوى معيشته ودرجة مسكنه وهل هى درجة لائقة وما قام به من مصاريف تتمثل فى إقامة «عزائم» لأقرانه أو مصادر معلوماته وحجم المعلومات التى حصل عليها وأمد الديوان العام فى القاهرة بها، بالإضافة إلى زوجته ومظهرها ونشاطها الاجتماعى مع زوجات الدبلوماسيين الأجانب فى العاصمة التى يعمل بها، ويعرف هذا التقرير باسم تقرير «الكفاية» ويحصل فيه الدبلوماسى على درجات تبدأ من مقبول وتصل إلى امتياز ويعد هذا التقرير أحد أهم الأمور التى تخضع لها ترقية الدبلوماسى من درجة إلى أخرى ويبرر أيضاً ثبات الدبلوماسى عند نفس الدرجة وتخطيه فى الترقية. فى حين تقع على السفير المصرى فى أى دولة مهمة إقامة العيد الوطنى لمصر وهو حتى الآن عيد ثورة 23 يوليو على نفقته الخاصة ويكون أيضاً محل محاسبة إذا لم يخرج بالمظهر اللائق وتتفاوت تكلفة الاحتفال من عاصمة لأخرى ففى بعض العواصم تكون التكلفة لا تتجاوز خمسة آلاف دولار وتصل فى عواصم أخرى إلى خمسة عشر ألف دولار. واقعيا ليست هذه المرة الأولى التى يتجه تفكير الحكومة إلى تقليص عدد البعثات الدبلوماسية، فبحسب ما كشف أحد وزراء خارجية مصر السابقين -الذى تحفظ على ذكر اسمه فى حديثه ل«الوطن»- كانت هناك مطالبات مماثلة على مدى العشرين عاما الماضية وتعامل معها وزراء الخارجية عمرو موسى وأحمد ماهر وأحمد أبوالغيط ولكن بتقليص الأعداد وليس البعثات، خاصة فى أفريقيا ودول أمريكا اللاتينية التى عادة ما يكون التمثيل الدبلوماسى فيها سفيرا ويعاونه قائم بالأعمال وتستثنى من ذلك إثيوبيا التى تضم أربعة دبلوماسيين بجوار السفير وذلك بسبب وجود مقر الاتحاد الأفريقى فى أديس أبابا بالإضافة إلى جنوب أفريقيا التى تضم نفس العدد من الدبلوماسيين. وقبل سبع سنوات وُضعت مسألة تخفيض عدد البعثات الدبلوماسية فى الخارج محل دراسة من جانب وزارة الخارجية وتوصلت إلى إمكانية إغلاق عشر بعثات دبلوماسية، وفقا لهذه الدراسة كان سيوفر إغلاق العشر بعثات حوالى 10 ملايين دولار فى العام ولكن فى المقابل كانت هناك وجهة نظر أخرى تم العمل بها أن هذه الدول لها سفارات ودبلوماسيون يتجاوز عدد الدبلوماسيين المصريين لديهم وبالتالى فالحساب الاقتصادى يصب فى الإبقاء عليها. وعندما تطور الطموح المصرى لتمثيل أفريقيا فى مجلس الأمن تم الابتعاد بشكل مطلق عن التفكير فى تقليص البعثات أو أعداد الدبلوماسيين فى ظل المنافسة الشرسة مع جنوب أفريقيا فى هذا الملف باعتبار أن التمثيل الدبلوماسى جزء رئيسى من أدوات التحرك العملى للخارجية المصرية وأعضائها الذين وصلوا الآن لنحو 930 دبلوماسيا من بينهم 400 فى الخارج و400 فى الداخل وحوالى 100 دبلوماسى فى مرحلة الإعداد داخل المعهد الدبلوماسى، فضلا عن 30 دبلوماسيا منتدبا من وزارة الخارجية إلى هيئات دولية ووزارات حكومية داخل مصر وكان آخرهم السفير علاء الحديدى مدير إدارة إسرائيل الذى انتدب من وزارة الخارجية إلى مجلس الوزراء ليكون متحدثا باسمه، ويقول الوزير إن محاولة العبث داخل الجهاز الدبلوماسى الآن، بمثابة إطلاق نار على أصابعنا لأن هذا الجهاز الوطنى أثبت كفاءة فى عملية الانتقال الديمقراطى ولم يتأثر الانضباط الدبلوماسى لمصر فى الخارج بالانفلات الداخلى.