عقود عمل بالبوسنة.. جولة ل"الحياة اليوم" بوزارة العمل ولقاءات مع بعض المستفيدين    حسام الخولى: وضعنا "ميثاق شرف" للمنافسة فى انتخابات الشيوخ    التعليم تكشف المواد المطورة للعام الدراسى الجديد.. عربى وإنجليزى أبرزها    خطوات استخراج بدل تالف أو فاقد لبطاقة الرقم القومي أونلاين    رئيس الوزراء يتابع إجراءات تنفيذ الخطة الاستراتيجية لتحلية مياه البحر    طرح قطع أراض سكنية بالمجتمع السكنى الجديد غرب طريق الأوتوستراد بحلوان للبيع بالمزاد العلني    سوريا تدين بأشد العبارات الاعتداءات الإسرائيلية على أراضيها    اقرأ غدًا في «البوابة».. مصر تدعم رؤية ترامب للسلام والسيسي يطالب باتفاق عادل حول سد النهضة    أحمد شريف: الانتقال إلى الزمالك كان أحد أحلامي.. وسعيد بردود فعل الجماهير    على سبيل الإعارة.. معتز محمد يعلن رحيله عن الأهلي    محمد شريف: الأهلي دائما اختياري الأول والأخير.. وأمامي طموحات جديدة    الاتحاد العماني يعلن التعاقد مع كيروش لقيادة المنتخب الأول    الداخلية تكشف ملابسات مشاجرة بأسلحة بيضاء بالجيزة    غدا .. ارتفاع فى درجات الحرارة وأمطار رعدية محتملة على بعض المناطق    الداخلية : تسرب غازى داخل محطة وقود برمسيس وراء إصابة مواطن وتم إخطار شركة الغاز    آمال ماهر تطرح أغنية "خبر عاجل" بتوقيع أيمن بهجت قمر (فيديو)    محمد رياض يعلن نهاية توليه رئاسة المهرجان القومي للمسرح المصري    الخميس المقبل.. القناة الوثائقية تقدم الجزء الثانى من فيلم أم كلثوم    بيت الزكاة والصدقات يقدم الدعم ل 5000 طفل بقرى محافظة الشرقية    طريقة عمل القهوة الخضراء للتخسيس وفوائدها للجسم    انفوجراف | شروط ومستندات التقديم للتدريب الصيفي بالبنك المركزي المصري    الشيخ خالد الجندي بصف وجه النبي صلى الله عليه وسلم: جمال لا يُضاهى (فيديو)    ما حكم اتفاق الزوجين على تأخير الإنجاب؟.. أمين الفتوى يوضح    120 مليون سنويا.. خالد الغندور يكشف انتقال حمدي فتحي إلى بيراميدز    مرافق الأقصر تحرر 111 محضر ومخالفة خلال حملة مكبرة بشوارع المدينة    مستشفى سوهاج العام تحصل على المركز الثانى فى إجراء جراحات العظام    جمهور رحمة محسن يطالب بالدعاء لها بعد تداول صورتها داخل المستشفى    سعر ومواصفات MG ZS الفيس لفت الجديدة فى السوق المصرى    ألفارو كاريراس: "عدت إلى موطني ريال مدريد رجلًا وأعد الجماهير بالكثير"    وزير الشؤون القانونية يهنئ رئيس هيئة النيابة الإدارية    لليوم الثالث.. انتظام أعمال تصحيح الشهادة الثانوية الأزهرية بالقليوبية    مها عبد الناصر تطالب بالكشف عن أسباب وفاة 4 أطفال أشقاء في المنيا    نتيجة الامتحان الإلكتروني لمسابقة معلم مساعد دراسات اجتماعية.. الرابط الرسمي    المفتي الأسبق: يوضح عورة المرأة أمام زوج أختها    رئيس الطائفة الإنجيلية: الموقف المصري من نهر النيل يعكس حكمة القيادة السياسية وإدراكها لطبيعة القضية الوجودية    إنطلاق فعاليات حملة "100 يوم صحة" بميدان الثقافة في سوهاج    كشف مبكر ومتابعة حالات مرضية.. انطلاق حملة «100 يوم صحة» في أسيوط    الإيجار القديم بين الواقع والمأمول.. نقلا عن "برلماني"    بحافلة متعطلة.. إسرائيل تلجئ نازحا من طولكرم إلى مأوى من حديد    اليوم نظر محاكمة عامل متهم بقتل زوجته فى الطالبية    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر أمورنا وتشرح صدورنا    برج السرطان.. حظك اليوم الثلاثاء 15 يوليو: احذر    إلهام شاهين عن صورة لها بالذكاء الاصطناعي: زمن الرقى والشياكة والأنوثة    "الأونروا": ارتفاع معدلات سوء التغذية في قطاع غزة    حكومة كردستان العراق: تعرض حقل نفطي في دهوك لهجوم بطائرة مسيّرة    الرئيس الإيراني: الحرب وحّدت الإيرانيين داخل البلاد وخارجها.. ونتمسك بخيار الدبلوماسية    نيسان تعتزم إغلاق مصنعها الرئيسي في أوباما بحلول مارس 2028 لخفض التكاليف    جيش الاحتلال: اعتراض مسيرة أطلقت من اليمن دون تفعيل صفارات الإنذار    الصحة: بدء تدريب العاملين المدنيين بوزارة الداخلية على استخدام أجهزة إزالة الرجفان القلبي (AED)    ثنائي بيراميدز ينضم إلى معسكر الفريق في تركيا    الفئات الممنوعة من التصويت بانتخابات مجلس الشيوخ.. المحجور عليه.. المصاب باضطراب نفسى أو عقلى.. والمحكوم عليه نهائيا فى جناية    بإقبال كبير.. قصور الثقافة تطلق برنامج "مصر جميلة" لدعم الموهوبين بشمال سيناء    أكلت بغيظ وبكيت.. خالد سليم: تعرضت للتنمر من أصدقائي بعد زيادة وزني    محامي المُعتدى عليه بواقعة شهاب سائق التوك توك: الطفل اعترف بالواقعة وهدفنا الردع وتقويم سلوكه    محمد حمدي: هذه أسباب عدم نجاحي مع الزمالك    الحكم محمد الحنفي يعلن اعتزاله    تعرّف على عقوبة إصدار شهادة تصديق إلكتروني دون ترخيص وفقًا للقانون    «مستقبل وطن» يُسلم وحدة غسيل كلوي لمستشفى أبو الريش بحضور قيادات جامعة القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الوطن» تواصل نشر أخطر «الصفحات المفقودة» فى مذكرات مؤسس مركز «ابن خلدون»
سعدالدين إبراهيم: الإسلاميون هللوا وكبروا ووزعوا الشربات فى السجن بعد أحداث 11 سبتمبر
نشر في الوطن يوم 23 - 10 - 2014

فى الحلقة السابقة، تحدث الدكتور سعد الدين إبراهيم عن «الجملوكية»، وهو اصطلاح للتعبير عن ظاهرة الحكم الملكى والتوريث فى الجمهوريات العربية، واحتمالات حدوث التوريث فى مصر، الأمر الذى أثار غضب نظام «مبارك»، واقتحمت قوات الشرطة منزله وألقت القبض عليه ومعه 27 باحثاً وكان على رأس القوة هشام بدوى، رئيس نيابة أمن الدولة، وفى أثناء احتجازه تعرض للتعذيب بالطريقة الصينية، ثم حُكم عليه بالسجن 7 سنوات، بتهمة تلقى تبرع قدره 260 ألف يورو بالمخالفة لأمر عسكرى والتحايل على جهة التبرع والإساءة إلى سمعة مصر.
منذ أكثر من 10 سنوات، كنت ما زلت فى سجن مزرعة طرة وباستثناء فقدان الحرية وتدهور حالتى الصحية، فقد تعلمت الكثير عن نفسى وعن أقرب الناس وعن عوالم أخرى صادفتها خلال تلك التجربة القاسية، وقبل أن أسرد الكثير من التفاصيل التى عايشتها وشاهدتها فى سجنى، يجب أن أقول: إن المبادرة بمشروعَى محو الأمية والقروض الصغيرة فى تلك السنوات الثلاث فتحت أبواب خير كثيرة على نزلاء آخرين فى السجن. ومن ذلك أن 4 نزلاء استأنفوا الدراسة وحصلوا على شهادة جامعية وهم معى فى السجن أو بعد خروجى بقليل ومنهم من فتح مكاتب محاماة مثل «صبرة القاسمى» الذى كان مسئول الاستخبارات فى تنظيم الجهاد وهو الآن رئيس حزب سياسى وضيف دائم فى الفضائيات، ومن أصبح رجل أعمال مثل «نبيل نعيم، وحسن سُلطان»، والطريف أن الزنزانة التى قبعت فيها تلك السنوات هى نفس الزنزانة التى قضى فيها علاء وجمال مبارك فترة الحبس الاحتياطى بعد ثورة 25 يناير، ولو أن أحداً كان قد طرح فى ذلك الوقت مجرد احتمال أن تدور الدوائر كما دارت لاعتبرنا ذلك وقتها أشبه بالمستحيلات ولكن الله يمهل ولا يهمل.
وبعيداً عن كل ذلك فقد حملت فى السجن رقم 24371/2، وشاهدت فى سجنى مواقف لا يمكن أن تُنسى أو تُمحى من ذاكرتى وكانت هناك تواريخ من الصعب جداً أن أنساها مهما طعنت فى السن ولذلك ستتعجب جداً عندما تجدنى أذكرها لك بنهارها وليلها؛ فيوم الاثنين 21/5/2001 كان يوماً مشهوداً فى حياتى، بدأ فى حوالى الحادية عشرة فى محكمة جنوب القاهرة بباب الخلق وكانت زوجتى باربارا وابنتى راندا وشقيقى أحمد وابن شقيقى ناصف وعديد من الأصدقاء والزملاء والدبلوماسيين وممثلى منظمات حقوق الإنسان والصحفيين مهيئين لحضور جلسة اليوم الأخير لمحاكمة مركز ابن خلدون؛ حيث يلخص كل من الادعاء والدفاع مرافعته وترفع الجلسة ثم تأتى هيئة المحكمة لإعلان موعد جلسة قادمة للنطق بالحكم، ولكن حدث شيئان غير معتادين ومغايران للسيناريو المتوقَّع، الأول هو أننى طلبت أن أتحدث مباشرة إلى المحكمة بعد أن انتهى دفاعى، وقد سمحت لى المحكمة وخرجت من القفص وتحدثت لمدة نصف ساعة ساد فيها هدوء كامل فى القاعة إلا من أصوات بكاء مكتوم من بعض الإناث والشباب داخل القفص وخارجه، حتى رئيس المحكمة بدا وجهه متأثراً وقد سعد المحامون جميعاً بما فعلت، بما فى ذلك أولئك الذين كانوا ضد فكرة حديثى المباشر أمام المحكمة، والثانى غير المعتاد هو أن الجلسة رُفعت للاستراحة توطئةً للعودة لإعلان موعد الجلسة المقبلة للنطق بالحكم ولكن الاستراحة طالت وطالت ثم رأينا القاعة تمتلئ فجأة بمزيد من رجال الأمن المركزى وبعد ساعة ونصف الساعة تقريباً عادت هيئة المحكمة لا لتحدد موعد جلسة مقبلة ولكن لتنطق بالأحكام فى القضية ب7 سنوات سجناً لى بصفتى المتهم الأول ثم ما بين سنة و5 سنوات لباقى المتهمين ال27، معظمهم مع وقف التنفيذ.
نقلونى مع 3 آخرين مباشرة إلى «طرة» وأخذت «نادية» و«ماجدة» إلى سجن النساء فى القناطر، وبعد ذلك زارنى فى السجن اللواء نبيل العزبى، مساعد وزير الداخلية لشئون السجون، وفتش على الزنزانة الكئيبة التى أقيم فيها مع مساعد الشرطة محمد حسنين عمارة، أحد المتهمين فى القضية، الذى لم أكن قد رأيته فى حياتى إلا فى قفص الاتهام، وتم فحصى طبياً بواسطة لجنة من أطباء السجن، وأخبرنى اللواء العزبى أن د. باربارا وراندا والمحامى د. إبراهيم صالح كانوا قد زاروه فى وقت مبكر من اليوم وأبدى اندهاشه وإعجابه وربما حسده للحب الهائل الذى تحمله زوجتى لى، لم يكف رفيق الزنزانة عن البكاء وكنت أبذل قصارى جهدى لتهدئة خاطره ولفت انتباهى أنه رغم أصوله الريفية المتواضعة وعمله مساعد شرطة (صول/ مخبر) فإنه لم يتعود على حياة السجن الخشنة أو يتقبلها كما تقبلتها أنا رغم أنى أكبره بثلاث عشرة سنة، وكان الانشغال برفيق الزنزانة وبتدبير أبسط أولويات الحياة وأكثرها بدائية من الأمور التى صرفتنى عن التفكير فيما حدث أمس فى المحكمة، وهى نعمة من الله.
سقف الزنزانة عالٍ ونافذتها ضيقة وقريبة من السقف، وبالكاد تُدخل نوراً وهواء للتنفس، وكذلك باب الزنزانة كان حديدياً ثقيلاً، فى أعلاه فتحات ضيقة يمكن منها رؤية السلم الذى يؤدى إلى الطوابق الأعلى ولم يأتِنا طعام أمس، وفقط حوالى العاشرة صباحاً قُذف لى ولزميلى بستة أرغفة بلدى سيئة وبعدها بساعة أحضروا لنا علبة من الحلاوة الطحينية وكتلة من الجبنة البيضاء، وفى عصر اليوم حصلنا على وجبة ساخنة، أرز وقطعتى لحم، تركتهما لزميلى؛ حيث إننى نباتى، ثم تسلمت بعد ذلك الأدوية وجهاز ضبط التنفس وتم تحسين وصلة المياه فى الزنزانة وعمل توصيلة كهرباء لتشغيل جهاز ضبط التنفس، وعلمت عصر اليوم أننى سأنتقل إلى سجن مزرعة طرة الذى قيل لى إنه أفضل بكثير من سجن الاستقبال، وطلبت أن ينتقل معى كل المحكوم عليهم من «ابن خلدون» واستجاب المسئولون للطلب، وهو ما أدخل البهجة على قلوب أسامة حماد وخالد فياض ومرافقى محمد حسانين، وفى مساء اليوم تم نقل الخلدونيين الأربعة إلى سجن مزرعة طرة، وفعلاً وجدنا فارقاً كبيراً، وعلمت أن مساعد الوزير ومأمور السجن أشرفا على إعداد الزنزانة فى مستشفى سجن مزرعة طرة وكانت مساحتها 4×6 ولها نافذة كبيرة مطلة على حديقة متواضعة للمستشفى وعلمت أنها كانت صيدلية السجن وتم نقل الأدوية منها على عجل وتحويلها إلى زنزانة ولكن بابها خشبى فُتحت فى خلفيته طاقتان ليطل منهما الحراس علينا فى أى وقت ليلاً أو نهاراً وكانت الزنزانة تحتوى على سريرين مجردين ورغم ذلك كان الوضع الجديد أفضل عدة مرات، وذهب الخلدونيان الآخران خالد فياض وأسامة حماد إلى عنبر رقم 24 الذى يفصله عن المستشفى فناء كبير وكان هناك اهتمام واضح من إدارة السجن ونزلاء المستشفى بالوافدين الجدد، وفهمت من الموجودين فى سجن مزرعة طرة أن مساعد الوزير اللواء نبيل العزبى أتى بنفسه فى اليوم السابق وعاين أحوال مستشفى سجن المزرعة ولما وجد كل الغرف مشغولة أمر بإخلاء الصيدلية وإعدادها على عجل لاستقبالى أنا ومرافقى، وبالفعل لاحظت أن أعمال الإصلاح والتعديل والترميم لا تزال طازجة.
وقابلنى كل نزلاء المستشفى، وكانوا حوالى 15 شخصاً، بالترحاب وعرضوا خدماتهم ومساعداتهم وفاضوا علىَّ وعلى مرافقى بالأطعمة والمشروبات، وكانت مساحة الغرفة أو كما راق لى تسميتها بالزنزانة حوالى 4×6م فى مبنى من طابق واحد شُيِّد عام 1941 على نمط معمارى قريب جداً من منزل أسرتى فى قرية «بدين» الذى كان قد شُيد عام 1939. ومن النافذة الواسعة كان بإمكانى النظر إلى وسماع صوت العصافير فى الصباح والمساء، وكنت أشغل نفسى بتلك التفاصيل حتى أضيع الوقت فلا أشعر بالملل من سجنى، وكاد مرافقى يرقص فرحاً من النقلة الحضارية الهائلة بين زنزانة سجن الاستقبال وغرفة مستشفى مزرعة طرة وكف عن بكائه المتقطع، وكانت الزنزانة تقفل علينا من السادسة مساء إلى التاسعة صباح اليوم التالى.
وجدت أعداداً كبيرة من المساجين لديها حب استطلاع ولهفة شديدة لرؤيتى والتعرف علىَّ ومصافحتى لكونهم كانوا يتابعون أخبار القضية عن كثب، وبعد قليل أرسل إلىَّ رئيس المباحث للتوجه إليه فى مبنى إدارة سجن المزرعة على بعد حوالى 200 متر من المستشفى الذى أقيم فيه، وكانت المفاجأة هى انتظار أسرتى فى مكتبه: «باربارا وراندا ونبيل وشقيقى أحمد والسائق سعد»، كان لقاءً عاطفياً مثيراً، تركت الأسرة لى عدداً من الصحف والمجلات والرسائل الإعلامية من الإنترنت، وأذهلتنى ردود الفعل العربية والعالمية، وبعد ذلك بدأت فى التعرف على النظام الرسمى للسجن، الذى لا يختلف كثيراً عن سجن الاستقبال الذى عهدته؛ فالإدارة هرمية على قمتها مأمور برتبة عميد ونائب برتبة العقيد ثم 2 برتبة رائد ثم 3 برتبة نقيب، ثم عدد من الملازمين والمساعدين والشاويشية والعساكر، إضافة إلى طاقم آخر من المدنيين كجهاز مساعد، بينهم إخصائيان اجتماعيان وسكرتارية من الجنسين، كما يوجد ضابط مباحث عامة تابع لمصلحة السجون.
ويحتوى السجن على 5 عنابر، يضم كل منها ما بين 50 و100 نزيل، والمستشفى الذى نزلت أنا فيه وجدت به حوالى 13 نزيلاً، ومعظم نزلاء السجن ممن يطلق عليهم «سياسيين» وهم فى الواقع إسلاميون ويشغلون العنابر الثلاثة الأولى بينما يشغل الجنائيون عنبرى 4 و5 ويضم هذا الأخير ضابط شرطة وقضاة سابقين صدرت فى حقهم أحكام، وهناك كالعادة نظام غير رسمى مواز؛ فهناك طبقية تراتبية بين العنابر وداخل كل منها. وعلى ما يبدو لا يضم المستشفى مرضى بقدر ما هم متميزون أو موصى عليهم ويليهم عنبرى ثم عنبر 4 ثم عنابر الإسلاميين، ومع ذلك يعتبر عنبر 2 أهم العنابر من حيث تقديم الخدمات لبقية المساجين، خاصة فى عنبر 5 والمستشفى، ويضم عنبر 4 نوعيات متناقضة، رجال أعمال ومهنيين مرموقين ميسورين وفئة المجندين الهاربين، وهذه الأخيرة تعتبر قاع التراتب الطبقى فى السجن؛ حيث يقوم أفرادها بأعمال النظافة وإدارة مطبخ ومخبز السجن، ويقوم الحرفيون منهم بالعمل لحسابهم، وفى المشروعات الصغيرة سُمح لبعض الإسلاميين المخضرمين بتملكها وإدارتها، ومن الشخصيات المتميزة بين المساجين: الكابتن أسامة عباس، وهو مهندس ورجل أعمال، لكن النزلاء يلقبونه ب«الكابتن» لأنه ماهر فى لعب كرة القدم وقد نظم فريقين من عنبره (4) يتباريان فى كرة القدم مرتين أو ثلاثاً أسبوعياً. المهم أنه من أول من أطل علينا مستفسراً عن أى شىء يمكن أن يقدمه. كان الرجل بشوشاً ودوداً وهو فى أوائل الأربعينات وفهمت أنه مسير عنبر 4 (أى يندب عن نزلاء العنبر، حوالى 100، لدى الإدارة ويندب عن هذه الأخيرة تجاه زملائه من النزلاء)، وحيث إن خالد وأسامة حماد يقيمان فى إحدى غرف عنبره، فقد أصبح هو حلقة الوصل بيننا وكذلك تأكد أن أسرة زميلى محمد حسانين تعرف أين هو وتعرف مواعيد الزيارة ورغم وجود إخصائيين اجتماعيين محترفين فإن أسامة عباس هو الذى يقوم بدور الإخصائى الاجتماعى الفعلى، وكان من الأسباب التى هدأت من روع زميلى فى الزنزانة أننى وعدت بإرسال مبلغ شهرى لأسرته يعادل مرتبه، وقد أسعده ذلك كثيراً وأراد تقبيل قدمى، فلما نهرته أصر على تقبيل يدى وهو ما رفضته أيضاً فسأل إذا كان فى الإمكان تقبيل رأسى فسمحت له بذلك، وتوارد على غرفتنا كل أصحاب المشروعات الصغيرة فى السجن ليعرضوا خدماتهم من الغسيل والكى إلى الوجبات الساخنة إلى النجارة والحلاقة والخياطة، وكان هناك حب استطلاع واضح حول شخصى وزملائى، واتضح أن معظم النزلاء كانوا يتابعون قضية «ابن خلدون» من الصحف والإذاعات الأجنبية وهى من المسموحات فى هذا السجن.
وذات يوم وقع لى حادث فى الزنزانة أثناء حديث عبر النافذة مع زميل سجين يدعى خالد رضا عبدالعزيز، حيث وقعت إثر دوار مفاجئ، ووصل طبيب مناوب من ليمان طرة وقام بالكشف علىَّ وطمأننى على إصابتى فى قدمى اليسرى. وكان سبب ذلك الدوار، ما ذكرته من قبل نتيجة تأثر جهازى العصبى وانهياره إثر تعرضى للتعذيب بالطريقة الصينية، حيث أدى إلى تأثيرات منها عدم القدرة على الاتزان، إضافة إلى جلطات فى المخ تؤدى إلى تنميل الأطراف واختلال التوازن الحركى. وعندما جاء الحادى عشر من شهر سبتمبر 2001 كان من المحتمل أن تكون ابنتى راندا فى طريقها للولايات المتحدة للحاق بوالدتها فى نيويورك، وفى الرابعة من مساء اليوم فوجئنا بأخبار الهجوم الإرهابى المروع على مبنى مركز التجارة العالمى فى نيويورك ومبنى وزارة الدفاع فى واشنطن، وتم الهجوم بواسطة 4 طائرات مختطفة، إحداها من بوسطن، ومن المرجح أن المختطفين وجهوا قائد كل طائرة إلى الهدف المطلوب وتم الارتطام بالهدف، وكانت التوقعات تشير إلى سقوط الضحايا بالمئات. وسألنى نزلاء المستشفى عن مرتكبى الهجوم ورجحت أن يكونوا على الترتيب: جماعة أمريكية متطرفة «الداوديين»، أو طالبان أسامة بن لادن.
وتوجهت إلى إدارة السجن حيث اتصلت بصهرى نبيل وكانت راندا بدورها قد غادرت القاهرة صباح اليوم السابق على الخطوط البريطانية فى طريقها إلى نيويورك للحاق بوالدتها، ومع وصولهما إلى لندن وقبل ركوب الطائرة الثانية إلى نيويورك كانت الفجيعة الإرهابية قد وقعت وألغيت كل الرحلات إلى الولايات المتحدة واتصلت راندا بدورها بنبيل لتخبره بقرارها بإلغاء الجزء الأمريكى من رحلتها والبقاء فى لندن لبضعة أيام ثم العودة إلى القاهرة، واتضحت أبعاد أكثر لحجم الكارثة الأمريكية، حيث يقدر عدد القتلى فى مركز التجارة العالمى بحوالى 5 آلاف، وهذا العدد من الضحايا هو ضعف عدد قتلى الهجوم اليابانى على ميناء بيرل هاربر فى الحرب العالمية الثانية، وكنت أتوقع حرباً أمريكية على أفغانستان أو العراق لاحتمال تورطهما فى الهجوم الرهيب، وبالقطع ستتغير خطط باربارا التى كانت تتضمن لقاءات متعددة مع أعضاء فى الكونجرس ومسئولين آخرين، وكانت ردود الفعل فى السجن لما حدث فى الولايات المتحدة مختلفة، فربع من تحدثوا معى كانوا يشعرون بالأسى ونصفهم يشعر بالشماتة، والسجناء من الإسلاميين كانوا يهللون ويكبرون ويوزعون الشربات، بينما كان الإسلاميون من السجناء العائدين من أفغانستان يشعرون بحالة من الذعر والرعب، خاصة بعد أن أعلنت الإدارة الأمريكية أن أسامة بن لادن والمجاهدين الأفغان هم الذين نفذوا العملية، فكانت لديهم بعض الهواجس بأن أمريكا ستدمر أماكن احتجازهم فى السجن بالطائرات. واستدعانى مأمور السجن وطلب منى محاولة تهدئتهم واستجبت لطلبه وبالفعل طمأنتهم وأكدت لهم أن هذا مستحيل حدوثه لأسباب كثيرة، أهمها أن مصر دولة حليفة للأمريكان، ورغم أننى طمأنتهم فإن القلق كان سيقتلنى على زوجتى التى كانت فى أمريكا فى توقيت التفجير الإرهابى إلى أن اطمأننت أنها بخير، ولكنى كنت منشغلاً بالمأساة الإنسانية التى راح ضحيتها الآلاف من النفوس البشرية خلال نصف ساعة. وجزء من حزنى وتأثرى هو بلا شك أن أحد أفراد أسرتى وأصدقائى أو طلابى أو معارفى كان يمكن أن يكون بين ركاب الطائرات الأربع التى استخدمت بركابها لتفجير برجى مركز التجارة العالمى ومبنى البنتاجون أو فى أحد هذه المبانى الثلاثة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.