بعد أن اجتاحت جماعة الحوثيين صنعاء، وتمددت عسكرياً فى محافظات أخرى، هاجت الصحف الإيرانية وماجت، واعتبرت أن سقوط صنعاء بيد الحلفاء الموثوقين دليل على انتصار الثورة الإسلامية واستلهام لنموذجها، وأضفى الإعلام الإيرانى هالة من الإجلال لمن اعتبروه سيد صنعاء وملكها غير المتوج عبدالملك الحوثى، زعيم جماعة أنصار الله، التى أعادت تشكيل السياسة اليمنية، وفتحت الأبواب السعودية، كما قال أحد نواب البرلمان الإيرانى، أمام المد الثورى على الطريقة الإيرانية. صيحات الفرح والإعجاب والانتشاء بانتصار الحوثيين لدى إيران له ما يبرره سياسيا واستراتيجياً وفكرياً ومذهبياً. فالحوثيون منذ مطلع التسعينات وهم يمثلون استثماراً بدأ أيديولوجياً مع جماعة العلامة الزيدى بدر الدين الحوثى وابنه حسين، الذى قتل لاحقاً فى إحدى المواجهات العسكرية التى جرت وقائعها فى 2004 بين الجماعة ونظام الرئيس صالح الأسبق، ثم تطور هذا الاستثمار إلى كونه استراتيجياً، بمعنى ارتباطه بالأهداف الإيرانية بمنطقة الشرق الأوسط ككل، والتى يلخصها تعبير استراتيجية التمدد المستمر والمندفع، من خلال بناء وتشكيل جماعات العملاء المحليين وتبنى قضاياهم وربطها بالأهداف والشعارات الإيرانية الأصيلة، مثل ما جرى مع حزب الله اللبنانى وحزب الدعوة وجيش المهدى فى العراق، ثم كسب المواقع والسيطرة لاحقاً على تحركاتها وبما يصب فى صالح الأهداف الإيرانية القومية التوسعية الهجومية والمغلفة بفكرة تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية إلى الجوار وما بعد الجوار المباشر. وفى كل التحركات الإيرانية يلحظ المرء تركيزها على ما يمكن وصفه بالمواقع الرخوة، التى تقبل بسهولة تغلغل النفوذ الإيرانى، وحالة اليمن باهترائه المعروف وفشل مؤسساته الذى تجسد خير تجسيد فى السنوات الثلاث الأخيرة فى حكم «صالح»، ثم امتد إلى ما بعد ما يعرف بثورة الشباب اليمنى، تمثل الحالة الأحدث والتى سبقتها حالة سوريا وإلى حد ما حالة لبنان. وذلك جنباً إلى جنب المواقع التى ينتشر فيها الشيعة المشبعون بفكرة المظلومية التاريخية ويرون فى توثيق العلاقة مع إيران خروجاً من نفق المظلومية إلى رحاب التسلط والهيمنة، وحالة العراق بعد الغزو الأمريكى البريطانى خير تجسيد لهذا النمط، التى وصلت إلى ذروتها فى حقبة رئيس الوزراء نورى المالكى، الذى فتح أبواب العراق كله للنفوذ الإيرانى وأجهز على فكرة التعايش السنى الشيعى، وهو الأمر الذى شكل أسس جبهة معارضة مضادة وصلت إلى ذروتها فى تنظيم «داعش» السنى العنيف، الذى من ضمن شعاراته مواجهة النفوذ الشيعى فى العراقوسوريا. وبعيداً عن المبالغات الإيرانية فى تصوير ما يجرى فى اليمن باعتباره انتصاراً للثورة الإسلامية بقيادة مرشدها المبجل، فمن المهم وضع انتصارات الحوثيين فى اليمن فى سياقها الصحيح، فالتمدد الحوثى نفسه لم يستقر بعد، والتحالف مع بقايا نظام على عبدالله صالح من قادة الجيش اليمنى أو بعض المحافظين ذوى النفوذ أصبح محل استهجان الكثير من اليمنيين الذين شكل بعضهم حركات مواجهة شعبية محلية لمجموعات المسلحين الحوثيين، كما حدث فى يريم، فضلاً عن كثرة مطالبات أهالى المدن المختلفة بخروج الحوثيين من أراضيهم، ناهيك عن تركيز مسلحى القاعدة فى اليمن على مواجهة مسلحى الحوثيين فى محافظات الوسط، وانتعاش حركة شعبية أخرى فى محافظاتالجنوب لمواجهة أى وجود للحوثيين. بعبارة أخرى فإن انتصار وتسيد الحوثيين على الشأن اليمنى ليس نهائياً، وقابل للتراجع، وكافة المؤشرات ترجح هذه النتائج فى غضون الأشهر القليلة المقبلة. وإذا حدث الأمر على هذا النحو نصبح أمام فشل جزئى للسياسة الإيرانية يُضاف إلى فشلها الجزئى الآخر والحادث فى العراقوسوريا معاً. وبالرغم من المشكلات التى تعانى منها إيران فى سبيل تحقيق هذه الاستراتيجية، خاصة الاستنزاف الدائم للموارد المالية، وذلك على حساب تنمية شاملة وحقيقية يغير حياة الغالبية العظمى من الإيرانية، فقد حققت هذه الاستراتيجية عدداً من الفوائد المهمة، لا سيما فى مجال الإنتاج العسكرى التقليدى، والدخول فى معترك تصنيع وإطلاق الأقمار الصناعية. ويلاحظ هنا أن صفقات الأسلحة المتنوعة سواء المدفوعة أو كهبات للحلفاء المحليين من جماعات التمرد أو للنظم التى تقبل التحالف مع إيران تمثل إحدى أهم آليات تحقيق الاستراتيجية الإيرانية، وقد أشرنا فى مقال سابق إلى أن النخبة العسكرية فى السودان ترى فى التحالف الاستراتيجى والعسكرى والأمنى السودانى الإيرانى عنصراً رئيسياً لبقاء نظام الإنقاذ وقدرته على مواجهة الضغوط، وأن الصناعات العسكرية الإيرانية التى أوجدت لها قدماً معتبرة فى السودان تمثل مكسباً مهماً لا يمكن التخلى عنه. وفى هذا السياق علينا أن نلاحظ تطورين مهمين للغاية؛ أولهما قيام إيران بتدريب الحوثيين اليمنيين فى ثلاثة معسكرات فى إريتريا، وهى معسكرات «ويعا» بالقرب من ميناء «عصب» الإرتيرى، والثانى فى الساحل الشمالى بين منطقتى «حسمت» و«إبريطى» على ساحل البحر الأحمر، والثالث فى منطقة «ساوى» القريبة من الحدود السودانية. أما التطور الثانى فهو المنحة العسكرية التى قدمتها إيران للجيش اللبنانى تدعيماً لقدراته فى مواجهة «داعش»، والتى يبحث تفاصيل استلامها وزير الدفاع اللبنانى فى طهران، وذلك بالرغم من أن السعودية كانت قد قدمت منحة عسكرية للجيش اللبنانى بقيمة 3 مليارات دولار. وفى كل الأحوال يمكن القول إن هناك حدوداً للتمدد الإيرانى، وإن استراتيجية اللحاف الطويل، على حد وصف أحد الباحثين السوريين، لهى استراتيجية حمقاء بكل معنى الكلمة. وأن هدف أن تكون إيران لاعباً دولياً له حضور فى كافة مواقع العالم وفى البحار والمحيطات وفى القضايا الدولية المختلفة كما تبشر الصحافة الإيرانية، هو هدف طوباوى لا تستطيع الموارد الإيرانية أو تحالفاتها مع جماعات من المتمردين هنا وهناك أن تحققه، وجل ما يمكن أن تحققه فى هذا السياق هو إحداث بعض المشكلات والأزمات للأطراف المنافسة الأخرى، فضلاً عن محاولة استثمارها محلياً لترسيخ نظام ولاية الفقيه فى الداخل، ودولياً فى العلاقة مع الغرب لتخفيف ضغوطه وتمرير البرنامج النووى الإيرانى بوضعه الملتبس الراهن، والقبول بدور إقليمى مؤثر نسبياً لطهران، لا سيما أن الإقليم ككل يُعاد تشكيله ومنفتح على كل النتائج، مع ترسيخ وجودها فى بعض المناطق التى يسود فيها الشيعة مثل جنوبالعراق على وجه التحديد. أما ما هو أبعد من ذلك فهو محض هراء.