نجيب محفوظ نبع ثَرٌّ لا ينضب معينه، وهو كالخمر المعتَّق تزداد «قيمته» مع الزمن. تعودنا فى كل عام أن نحتفل بذكراه بما يليق بكاتب عالمى لا يقل وزناً عن طاغور وتولوستوى وجارسيا ماركيز. ما يليق به هو أن نعيد قراءته وأن نعيد اكتشافه. قبل سنوات -وفى مثل هذه الأيام من سبتمبر 2006- رحل عن عالمنا نجيب محفوظ، كاتب الطبقة الوسطى ولسان حالها وراوى سيرتها. لم يكن هناك كاتب مصرى قبل نجيب محفوظ اقترب من هذه الطبقة وسبر غورها وكشف عن أحلامها وصور نوازعها ونزعاتها، ضعفها وقوتها، وطنيتها وانتهازيتها بمثل ما فعل. ونجيب محفوظ هو الذى رسم بقلم بارع مبدع، لا أظن -باعتراف نقاد الأدب- أن كاتباً غيره جاراه أو نافسه فى التعبير عن خريطة الحياة السياسية وتفاعلاتها فى حقب مختلفة من تاريخ مصر الحديثة طوال القرن العشرين، وهو القرن الذى عاشه نجيب محفوظ بأكمله، أو عاش معظمه، قرن التأسيس لفكرة «الوطنية» المصرية على أنقاض «الولاية» التابعة، وهى الفكرة التى مجدها فى أعماله الفرعونية الأولى؛ «كفاح طيبة» و«رادوبيس» أو «عبث الأقدار». وهو أيضاً قرن الثورة الوطنية الأولى ثورة 1919 التى كان نجيب محفوظ نتاجاً صادقاً لها؛ نقل لنا يومياتها ورصد موجاتها، وتعلم منها أول دروس الليبرالية التى جسدتها الثورة فى دستور 1923 أكثر الدساتير ليبرالية بين الدساتير المصرية التى تعاقب صدورها طوال قرن مضى. وربما كانت «ثلاثيته» الخالدة أصدق تعبير عن تلك المرحلة من كل ما كتبه المؤرخون عن نشأة الليبرالية المصرية وظهور الطبقة الوسطى التى قادت طوال قرن بأكمله حركات التطور والتنوير، وصنعت موجة جديدة من النهوض الاقتصادى والسياسى والثقافى الذى بلغ أوجه فى إنجازات الثورة المصرية؛ بنك مصر، وصناعة السينما والمسرح، وازدهار التأليف والترجمة والنشر، وحرية الصحافة، وظهور الأحزاب، وبناء الصناعة المصرية، وبزوغ عصر البرجوازية الصناعية التى أعلنت غروب عصر الإقطاع والملكيات الكبيرة، حتى قبل أن يقود أبناء الطبقة المتوسطة المصرية فى الجيش ثورة 23 يوليو 1952 وينقلبوا على التراث الليبرالى لثورة 1919، الذى انحاز إليه نجيب محفوظ وظل أميناً عليه حتى سنوات عمره الأخيرة. ونجيب محفوظ رغم انتمائه إلى تيار الواقعية الاشتراكية فى الأدب، فإنه لم يكن يخفى قناعاته الليبرالية واحترامه لحرية الرأى والتعبير وتقديسه للديمقراطية والتعددية. وسياسياً كان نجيب محفوظ قريباً من «الطليعة الوفدية» ورمزها الكبير الدكتور محمد مندور. وكثيراً ما انتقد «محفوظ» الثورة وضاق بإجراءاتها الاستثنائية، وغمز فى تجاوزاتها، وحمل على انتهاكات حقوق الإنسان التى نُسبت إليها (الكرنك مثالاً)، والرواية الأخيرة استخدمت فيما بعد فى تصفية الحسابات السياسية مع نظام «عبدالناصر»، رغم أن «محفوظ» ظل يحتفظ برأى إيجابى فى «عبدالناصر» لا ينتقص منه نقده للإجراءات غير الديمقراطية لنظامه. وقد استخدم نجيب محفوظ الأدب الروائى أروع استخدام فى التأريخ للطبقة الوسطى المصرية ب«ثوريتها» التى تبلغ حد العنف و«موادعتها» التى تصل حد الاستسلام. وصور التيارين البارزين لها؛ «المنتمى» و«اللامنتمى»، كما عبرت عنه شخصيات معينة فى رواياته كأبلغ ما يكون التصوير، حيث غار كغواص اللؤلؤ فى عمق النفس الإنسانية لهذه الطبقة، وأخرج كل ما تنطوى عليه هذه النفس من مشاعر مختلطة متنوعة متصارعة، حتى فى داخل الأسرة الواحدة (أسرة السيد عبدالجواد فى «الثلاثية»)، التى جمعت ألوان الطيف السياسى فى مصر العشرينات والثلاثينات، وهى الفترة التى بزغت وتبلورت فيها التيارات السياسية الثلاثة، التى ما زالت تصبغ بألوانها الحياة السياسية المصرية؛ الليبرالية واليسارية والإسلامية، وقد نضجت هذه الاتجاهات فى «القاهرة الجديدة» وغيرها من الروايات التى كانت الأسرة المصرية المتوسطة محورها. ومثل كل المبدعين الملتزمين قال نجيب محفوظ فى روائعه الأدبية رمزاً وتلميحاً كل ما يمكن أن يقوله السياسيون والمؤرخون تصريحاً وتلويحاً ودون مواربة. وكما تعلم جيل كبير السياسة ليس من خلال الأحزاب ومعاهد العلوم السياسية أو كتابات السياسيين، فإن جيلاً كبيراً فى مصر دخل السياسة من باب «الثلاثية» و«القاهرة الجديدة» و«الكرنك» و«زقاق المدق» و«ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» وغيرها من روائع الأدب التى أبدعها قلم مصرى لا يتكرر، استطاع بجدارة غير مسبوقة أن ينتزع اعتراف الإنسانية به، وأن ينال «نوبل» أرفع جائزة عالمية فى الأدب عن استحقاق شهد به نقاد الأدب ومبدعوه خارج دائرة الأدب العربى، فكانت الجائزة تكريماً لواحد من ألمع من كتب هذا الأدب وصاغه بوجدان إنسانى نبيل، جمع فى تكوينه، كما قال فى خطابه أمام لجنة نوبل الملكية فى السويد عشية الاحتفال به، عصارة الثقافتين العظيمتين الفرعونية والعربية الإسلامية، اللتين تشكلان فرعين بازغين فى شجرة الحضارة الإنسانية الوارفة الظلال. لقد كان نجيب محفوظ مؤرخاً لطبقة عاش حياتها وانتمى إليها اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، فهو ابن القاهرة، لم يُروَ عنه أنه خرج منها أو تردد على مدن غيرها، باستثناء الإسكندرية، فى الدلتا أو الصعيد. كان قاهرى الهوى والطبع والميول، فى أزقتها وأحيائها القديمة فى الجمَّالية والعباسية عاش سنوات وعيه الأول وردحاً من صباه وشبابه. لم يكن «محفوظ» -وهو ما يعترف به- يعرف العمال والفلاحين، ولم يعشْ حياتهم، ونادراً ما كتب عن العمال إلا فى التعبير عن الجماعات الثورية التى انخرطت فى النشاط السياسى السرى لبعض تجمعات اليسار المصرى الناشئ، وفيما عدا ذلك كان نجيب محفوظ ابناً باراً للبرجوازية المصرية فى طموحها ووطنيتها وليبراليتها. «بريماكوف»، وزير الخارجية الروسى الأسبق، الذى عمل سفيراً لروسيا فى القاهرة زمناً وغشى منتدياتها ومجالس مثقفيها وأجاد العربية وصادق مفكريها وكتابها ومنهم نجيب محفوظ، فضلاً عن قناعاته بعدالة القضايا العربية - سمعته وهو فى أحد مجالسه القاهرية يفاخر بأنه لم يتعلم السياسة فى معاهد العلوم السياسية أو جامعاتها فى موسكو وإنما تعلم السياسة من كتابات بوشكين ودستويفسكى وأنطون تشيكوف وتولستوى وتورجنيف، وغيرهم من أعلام الأدب الروسى. وعلى شاكلته جيل كبير من المصريين تعلم السياسة من نجيب محفوظ وقرأ تاريخه الوطنى فى رواياته؛ فقد كان أدبه تاريخاً لوطن وتاريخاً لطبقة.