أعلن الرئيس السيسى الحرب ضد الفساد بكلمته فى اجتماع اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الفساد، يوم الخميس الماضى، 28 أغسطس 2014، وأنا أذكر التاريخ بالتفصيل حتى نتخذه أساساً لمتابعة وتقييم نتائج تلك الحرب، ثم انضم رئيس الوزراء إلى الرئيس فى التأكيد على «نية» الحكومة لمكافحة الفساد. ومع التقدير لاهتمام الرئيس ورئيس الوزراء بقضية مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين، فإن النوايا الطيبة فقط لن تحقق إنجازاً على الأرض، إن المطلوب ليس وضع استراتيجية واضحة للإصلاح الإدارى، ولكن المطلوب التعامل الصريح والحاسم من أجل تجفيف منابع الفساد وأصل البلاء الإدارى فى البلاد، وهو سيطرة الجهاز الإدارى للدولة واحتكاره تقديم الخدمات والمنافع العامة التى يحتاجها المواطنون، ومن ثم يتمتع الموظفون العموميون فى وزارات الدولة ومصالحها وهيئاتها وفى الوحدات المحلية بسلطة واسعة فى توفير تلك الخدمات والمنافع الحكومية دون وجود بدائل تسمح للمواطنين بالاختيار ودون تقنين معايير واضحة وعادلة ومقيدة لسلطة الموظف العمومى فى المنح أو المنع أو المقيدة بقيود واهية ويمكن للموظف العمومى إذا أراد أن يتحلل منها. إن شيوع منطق «السلطة» واختفاء منطق «الخدمة العامة» فى الجهاز الإدارى للدولة، هو المنبع الأصلى لنشأة الفساد، حين يضطر المواطن لدفع رشاوى للحصول على حقه فى الخدمة أو المنفعة، أو حين يرغب مواطن فى الحصول على خدمة أو منفعة أو فرصة من التعامل مع الدولة بغير حق فى ذلك، فيكون الباب منفتحاً لإغراء الموظف أو الموظفين ذوى السلطة بالمال أو مختلف الرشاوى العينية والمعنوية والضغط عليهم لإنهاء المعاملة لصالح القادرين على الدفع من غير أصحاب الحق. إن قضايا الفساد الإدارى والمالى تنشأ عادة من هذه الحقيقة البسيطة، موظف صاحب سلطة ومواطن أو أجنبى يرغب فى الحصول على ما ليس من حقه ومستعد لدفع المقابل لهذا الموظف، كبيراً كان أو صغيراً، فرداً كان أو جماعة، لذلك نجد أن اتفاقية الأممالمتحدة أو الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد كلتاهما تبدآن بتعريف «الموظف العمومى» بأنه أى شخص يشغل منصباً تشريعياً أو تنفيذياً أو إدارياً أو قضائياً، سواء أكان معٌيناً أم منتخباً، دائماً أم مؤقتاً، مدفوع الأجر أم غير مدفوع الأجر، بصرف النظر عن أقدمية ذلك الشخص، وأى شخص آخر يؤدى وظيفة عمومية، بمن فى ذلك من يقدم خدمة لصالح جهاز عمومى أو منشأة عمومية، أو أى شخص آخر يوصف بأنه «موظف عمومى». إن تجفيف منابع الفساد وسد الثغرات التى ينفذ منها المفسدون والفاسدون لن يتحقق إلا بإعادة تأسيس وتصميم الجهاز الإدارى للدولة على المستويين المركزى والمحلى، على أسس تقلص من السلطات التى يتمتع بها الموظفون العموميون فى تقديم الخدمات العامة، وتحقيق الفصل الكامل بين الموظف «مقدم الخدمة» والمواطن «طالب الخدمة» أو المستثمر أو المورد «طالب المنفعة». ويتحقق ذلك بتحويل الجهاز الإدارى الحكومى للاهتمام بوظائف التخطيط والمتابعة فى الأساس، وإسناد مهام تقديم الخدمات العامة للمواطنين، من تعليم وصحة وإسكان ونقل وغيرها من الخدمات، إلى القطاع الخاص والأهلى وقطاع الأعمال العام، وفق شروط ومعايير لأداء الخدمات معلنة وشفافة، وبناء على إجراءات تعاقدية تنافسية يشارك ممثلو المجتمع فى الرقابة على دقة تنفيذها، وتتولى أجهزة الدولة الرقابة على مقدمى الخدمات الذين تم التعاقد معهم وتقييم مستويات أداء وجودة الخدمات المقدمة للمواطنين وتطبيق شروط التعاقد حين مخالفتها، والبحث فى شكاوى المنتفعين بالخدمات. وهذا الأسلوب المقترح يعرف بعملية «التعهيد» Outsourcing على أن تتم عمليات اختيار ومراقبة أداء متعهدى تقديم الخدمات الحكومية الذين تتعاقد الدولة معهم ومحاسبتهم وفق آليات متطورة تستخدم فيها تقنيات الاتصالات والمعلومات للتعرف الفورى على جودة وانتظام الخدمات المتعاقد عليها، مع إشراك ممثلى المنتفعين من المواطنين فى عملية الرقابة والتقييم التى قد تنتهى بإلغاء التعاقد واختيار متعاقد أكثر كفاءة والتزاماً بشروط تقديم الخدمة. وهذا الأسلوب صالح فى أغلب الخدمات الحكومية مثل الرعاية الصحية والتعليم بجميع مراحله وخدمات النقل العام والنقل بالسكك الحديدية والبرى والنهرى والبحرى، وخدمات الإسكان الشعبى والاقتصادى، وإدارة الفنادق المملوكة للدولة، حتى السجون طالها نظام التعهيد فى بعض الدول وإدارة الموانئ وأعمال الجمارك والمطارات وتنظيم المرور. ويحقق ذلك النظام تخليص المواطنين طالبى الخدمات الحكومية من سطوة وسلطان الموظفين العموميين، فالمتعهد لا يمارس «سلطة» وإنما يقدم خدمة وفق مواصفات ومستويات جودة وأسعار محددة فى عقد، ويخضع فى ممارسته لرقابة وتقييم من الدولة ومن ممثلى المنتفعين. وتستطيع الدولة «شراء الخدمة» من مقدميها وتوفيرها للمواطنين الذين تريد الدولة دعمهم، فقد تشترى أعداداً من المقاعد فى مدارس وتخصصها للطلاب المتفوقين أو تشترى الخدمة الصحية للمرضى الذين تتحمل الدولة نفقات علاجهم. أما الأنشطة الحكومية التى تعتبر من أعمال السيادة ويجب تأديتها من خلال مؤسسات الدولة مثل إجراءات منح الامتيازات والترخيص للمستثمرين وإجراءات التوريدات والمشتريات الحكومية، فتتولاها أجهزة حكومية يتم اختيار العاملين فيها من عناصر تتمتع بالكفاءة والنزاهة، ويحصلون على تدريب مستمر على أسس أداء واجبات وظائفهم، وفق معايير محددة بدقة وإجراءات شفافة تخضع لمستويات متعددة من الرقابة ويحاسبون على النتائج المتحققة. وفى جميع الأحوال، يشارك ممثلو المجتمع صاحب المصلحة فى الرقابة والتقييم والحكم على النتائج التى حققتها تلك الأجهزة، وهذا يعتبر تطويراً لتصريح الرئيس السيسى بأنه سيتدخل فى جميع المناقصات الحكومية!! وفى الأسبوعين المقبلين نكمل متطلبات تجفيف منابع الفساد.