كأنِّى بالأستاذ ثروت الخرباوى فى مقاله بجريدة «الوطن» 4/8/2014 بعنوان «يا شيخ الأزهر.. أتحقيق للقبر وإنكار للفكر؟!»، كأنِّى به وقد ارتدى ثوبَ مستشرقٍ جاء لتَوِّه من الغرب يدعو إلى البلبلة والاضطراب فى الأمور الدينيَّة، وإثارة الفتنة فى مؤسسات الدين، ويتعمد إهانة رموزه، والتطاول على أئمته وتسفيه مناهجه، استناداً إلى بعض الشواذِّ الواردة فى كتب التراث الإسلامى مما تم بحثه وتحقيقه وتصحيحه من قِبل علماء الأمة على مدار تاريخها الطويل. أطلَقَ الأستاذ الخرباوى لسانه على الإمام الأكبر شيخ الأزهر فى كافة الاتجاهات، فانتشر الإخوان -بزعمه- فى جامعة الأزهر بسبب الشيخ، وسيطروا على هيئة كبار العلماء، وأعطى رئاسة تحرير مجلة الأزهر للإخوانى التليد «محمد عمارة»، ومناهج الأزهر تحتوى على كتب بشعة خرَّجت لنا جيلاً من المتطرفين، وانتشرت الفتاوى المتشددة والضالة التى أدَّت إلى إلحاد عددٍ كبير من الشباب... إلى غير ذلك مما جاء فى مقاله. كيف يمكن أن تصدق مثل هذه المفتريات فى رجل كان رمزاً للتصدى لكل محاولات القفز على الأزهر فيما سجلته الأحداث يوماً بيوم منذ احتكار الإخوان للسلطة حتى اللحظات الأخيرة من حكمهم؟! أليس هذا هو الشيخ الذى وقف بقوة وحكمة فى ذات الوقت ضد سيل مشروعات القوانين التى أعدها برلمان الإخوان للتسلل إلى الأزهر والسيطرة عليه، فيما عبرت عنه «الأهرام» آنذاك بمانشيتها العريض: «الأزهر يدكُّ البرلمان بأسلحته الثقيلة»؟! أليس هذا هو الشيخ الذى تصدى لمحاولات تحريف مفاهيم الدين لتحقيق أغراض الحكم، فأصدر وثائق الأزهر المشهودة التى وضعت النقاط على الحروف، وأذعن إليها الإخوان والسلفيون والمدنيون والجميع دون منازع؟! أوَليس هذا هو الشيخ الذى تصدى لمحاولات قفز الإخوان إلى منصب الإفتاء بوضعه لضوابط موضوعية بإشراف هيئة كبار العلماء لأول مرة فى تاريخ الإفتاء حالت دون ذلك وأتت بأزهرى المنهج والعلم والخلق؟! أيمكن أن تَخيل هذه المفتريات على الشعب المصرى الذى يعلم علم اليقين أن شيخ الأزهر هو الذى وقف بالمرصاد لما ادَّعاه الإخوان من قانون الصكوك الإسلامية، الذى كان يعرِّض أصول مصر للبيع والتفريط، وقال كلمته المشهورة فى ذلك الوقت: «إن الحفاظ على أصول الوطن هو المقصد الأساسى لكل مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا هو الرأى الذى ندين به لله»؟! وربما لا أذيع سرا بتقريرِ أن جامعة الأزهر ظلت منذ شهر أغسطس 2012، بداية رئاسة الإخوان، وحتى قرب نهاية حكمهم بأشهر قليلة دون نواب لرئاسة الجامعة بسبب رفض شيخ الأزهر الجليل لقائمة من الأساتذة أعدتها رئاسة الجمهورية آنذاك على هوى الإخوان، ليختار منها الشيخ هؤلاء النواب، وإصراره على اعتماد تعيين مَن اختارهم، ولما احتدم الأمر أعلن الشيخ أن من الأكرم له أن يترك مكتبه ليعود إلى بيته فى سيارة أجرة، حتى اضطرت الرئاسة إلى اعتماد اختيار الشيخ، ثم صنعوا له بعدها واقعة التسمم المعروفة، التى على آثارها أغروا السفهاء ممن ينتمون إلى الطلاب بفعل ما فعلوا من محاصرة الأزهر، وكان ما كان مما سجلته أحداث تلك الأيام، ولا يزال يعرفها ويذكرها هذا الشعب الذى أحس بنبض شيخه وخرج فى جموع حاشدة إلى الأزهر يؤازر الشيخ ويؤيده. سيدى الكاتب، لقد قلت فى مقالك: «أصدقكم القول: إن شيخ الأزهر يخاف من السلفيين ورموزهم، ومن قبل وإلى الآن يخاف من الإخوان!»، ومسئولية الكلمة أمانةٌ، أستحلفك بالله وبضميرك أبعد كل هذه المواقف للشيخ تكون صَدَقْتَنا نحن القُرَّاءَ القولَ؟! إن كنت قد نسيت فارجع إلى بيانات الأزهر فى الأيام القليلة قُبَيل الثلاثين من يونيو، ثم راجع موقف الشيخ الذى حمل روحه على كفه لله تعالى لا غير فى الثالث من يوليو، أمثل هذا يخاف من غير الله؟! غفر الله لى ولك! إن القائمة تطول بمواقف الشيخ العظيمة فى هذا الشأن، وما لا يُحكَى أعظم وأكثر بما لا يتسع له مثل هذا المقام ولا المقال، ولكن تَعِيه جيداً ذاكرة هذا الشعب ووعيُه، أفيَخِيل على عاقل بعد ذلك القولُ بسيطرة الإخوان على هيئة كبار العلماء؟! إن محمد عمارة الإخوانى التليد بزعمكم يا أستاذ خرباوى هو الذى صوَّت ضمن بقية العلماء فى هيئة كبار العلماء بإقالة «القرضاوى»، وطالب على وجه الخصوص مع البعض منهم بالتحقيق معه لكشف أخطائه، وبيان انحرافه عن الصواب؛ كالشيخ الراوى، والدكتور حسن الشافعى، الذى أفحَمَ «القرضاوى» بمقالاته المنشورة آنذاك. والدكتور محمد عمارة الذى تقول عنه إنه إخوانى هو الذى صاغ بيان هيئة كبار العلماء بتهنئة الشعب المصرى على إنفاذ إرادته باختيار «السيسى» رئيساً له، ومجلة الأزهر تحت رئاسته بلغ انتشارها ستين ألف نسخة، ولم يحدث فى تاريخها من التطور مثل ما حدث فى عهد الرجل، وأنا أقول هذا عنه وهو لا يكاد يعرفنى ولا أكاد إلا قليلاً باعتباره من الشخصيات المعروفة من خلال بعض كتاباته. وإذا كان لبعض العلماء رأى فى تفصيل معين أو مسألة من المسائل، فالموضوعية وحرية الفكر التى طالما يتشدق بهما المتشدقون تحتمان احترام الرأى دون اتهام أو تسفيه أو إقصاء، وهذا هو منهج الأزهر الذى خرَّج هؤلاء الأفذاذ من رُوَّاد العلم والحضارة على مدى التاريخ الإسلامى الطويل. إن هذا المنهج الذى تسفِّهونه اليوم يا سيدى هو الذى خرَّج علماء من مثل: ابن خَلِّكان والسُّبكيَّين، تقى الدين وتاج الدين، والسيوطى والسخاوى والشرقاوى والشيخ محمد عبده، وتلاميذه من العلماء والأدباء والزعماء كالطهطاوى وطه حسين وسعد زغلول، وعليش والرملى وحسن العطار والشيخ شلتوت وعبدالحليم محمود والشعراوى والغزالى وجاد الحق... وغيرهم كثير، انتهاءً بطيب العلم والأصل والدين والخلق أحمد الطيب. وهناك فرق شاسع بين النقد البناء الصادق المخلص لله والوطن، وبين تتبع ما شذ هنا وما شرد هناك مما علق بالتراث الإسلامى من دخيل ومدسوس ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فيقع الشك فى قلوب الناس وأذهانهم بتراثهم وحضاراتهم. إن هذا التراث الإسلامى الذى ما عُرف الأزهر بريادته وقيادته العالمية التاريخية الحضارية إلا باعتنائه به وتحقيقه وتجليته وتحريره وترتيبه ونشره على هذه الصورة التى استقرت فى تعلمه وتعليمه على مدى أكثر من ألف عام مضت - هو رأسُ مال الأزهر الشريف، وما زال هذا التراث رسالة الأزهر العلمية والحضارية، ومحل عناية شيخه وعلمائه وباحثيه ومحققيه وطلابه ودارسيه ومحبيه، لا كارهيه ولا محقريه ولا حاسديه! ويعلم الله ما وَدِدنا لأحد من العقلاء أن يخوض مع الخائضين فى بدعة التحامل على التراث، دونما تحقيق ولا إنصاف، تلك البدعة التى تهافت عليها بالعدوى والتقليد كلُّ دَعِىٍّ تافه أو مُتعالِم أو مُتجاهل أو مغرض يطفئ غِلَّه فى شهوته بالوُلوغ فى مذاهب السادة والأكابر من علماء الأمة، يتلمس نقيصة هنا وهفوة هناك وشذوذا هنالك، وهو يعلم أنه عندما ينتقصهم إنما ينتقص تراثهم، وأنه بانتقاصه هذا التراث إنما ينتقص الإسلام نفسه، وهكذا كان المستشرقون الذين دَرَج كثير منهم على تلمس المعايب للإسلام من خلال تتبع التراث بهذه النية الخبيثة، وكان الشرف دائما فى الأزهر الشريف أن يتحرَّى العدالة العلمية، ويلتزم فى مناهجه أصول البحث المنزه عن الغاية، ويقف مما عسى أن يرجح صدوره عن السادة الأكابر من أئمة هذا التراث مما قد يكون خطأ أو كالخطأ من بعض الوجوه، موقفَ المعتذِر عن النفس البشرية، فليس أحدٌ معصوماً عن الخطأ إلا الأنبياء الذين أجاز البعض عليهم حتى الخطأ فى غير الوحى، وإن كان هذا الجواز يصدر -فى رأينا على الأقل- عن جهل هؤلاء بمعانى العصمة والنبوة والخطأ والصواب. لعل الكاتب يعلم ما وقع من دخيل ومدسوس على الكتب المقدسة السابقة على الإسلام، وعلى علوم الإلهيات والفلسفات القديمة والحديثة، فى كل حضارات الدنيا وعلى مدار تاريخها الطويل، والحمد لله الذى عصم القرآن من ذلك {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ولعل الكاتب يعلم أن علوم الحديث؛ من مصطلح وجرح وتعديل وتخريج وغريب الحديث ومُشكِل الحديث، التى تنفرد بها أمة الإسلام عن غيرها من الأمم، لم تُوضَع إلا لمجابهة هذا الدس والتحريف والكذب الذى أصاب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فى أزمنة معينة، لتصل إلينا صحيحةً نقيةً مُحقَّقةً مُنقَّحةً، كذلك علوم القرآن والتفسير لمواجهة ما تطرَّق إلى التفسير من يهوديَّات وخرافات وتأويلات، وعلم الكلام لمواجهة ما تسرب إلى العقائد من إلحاديات وأخيلة وصور عقلية مضللة، وأصول الفقه وقواعده؛ لضبط ما شابَه أحكام الفقه من شطط وإغراب وافتراضات وحِيَل بالاعتماد على الشُّبهة والحكم بالهياكل اللفظية والقضايا الصورية، وعلوم التصوف وقواعده، لمواجهة ما شاب السلوك من تحريفٍ وتخريفٍ وشطحٍ، وهكذا فى سائر العلوم. الأستاذ الخرباوى، إن مسألة عذاب القبر قد أصدر فيها الأزهر بيانه مؤكداً أنه لا ولن ينزلق إلى جدل عقيم فى مسائل قتلها علماء الأمة بحثاً وتحقيقاً معمقاً محرَّراً على مدار قرون طويلة، وإن إثارتها اليوم تُعَدُّ صَرفاً للأمة عن المضى فى البناء فى مرحلةٍ من أدق وأخطر مراحل وجودها، التى تُحسَب عليها الأوقات بالأنفاس لا بالساعات. ولا يوجد يا سيدى كما تدَّعى خلاف بين شيخ الأزهر وبعض كبار العلماء ولا صغار العلماء، ولا يوجد فى محراب العلم خلاف وإنما اختلاف، واختلاف علماء الأمة رحمة. وربما أطلت عليكم لظنى أن فيكم خيراً، وأدعو الله أن تراجعوا أنفسكم، ولا تتبعوا أهواء الذين لا يعلمون.. والسلام.