الأصل فى منع الصائم من ممارسة شهوته الجنسية فى نهار الصوم فى الإجمال قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ» (البقرة: 187). والرفث كما عرّفه ابن عمر وابن عباس: هو الجماع، كالذى يكون بين الزوجين. والرفث فى الأصل يعنى الفُحش من كل شىء، لكن استخدامه فى السياق هنا يغلب أن يكون المقصود به لقاء الزوجين، لأنه أعلى ما يطلبه أحدهما من صاحبه، والحديث عن الفروج فيه إفحاش، فكان التعبير بالرفث تلطفاً بالإنسانية. وفى سياق آخر يمكن أن يُفسّر الرفث بما هو أوسع، مثل قوله تعالى: «فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ» (البقرة: 197). المهم أن الصائم فى نهار يومه لا يُجامع زوجته، ولو فعل فسد صومه، وعليه كفارة مع القضاء عند الجمهور. والكفارة فقط فى قول عند الشافعية، وهو قول ابن حزم الظاهرى. ولما كانت أنابيشنا متخصصة فى المسائل الفقهية التى قد لا تخطر على بال أحد فى الظروف العادية، وعندما يحتاجها قد يستحيى من السؤال عنها، ولو سأل قد يقع فريسة لأحد الأوصياء الدينيين، الذى لا يعرف إلا الرأى الواحد بحكم ثقافته وليس بحكم علمه؛ لأنه لو علم المسألة لعرف اختلاف الفقهاء فيها وجعل لك حق الاختيار منها؛ لذلك فإننا سنعالج من هذه المسائل: (1) حكم الجماع سهواً فى رمضان. (2) حكم القبلة للزوجة فى الصيام. (3)حكم الاحتلام والاستمناء على الصيام. المسألة الأولى: لقاء الزوجين فى نهار رمضان سهواً. إذا كان الأكل والشرب سهواً لا يفطر الصائم فى رمضان عند جمهور الفقهاء؛ خلافاً للمالكية الذين أوجبوا القضاء على الناسى فى صوم رمضان دون صوم التطوّع. فهل يصح صوم المجامع سهواً فى رمضان؟ مذهبان للفقهاء. المذهب الأول: يرى أن الجماع فى حال نسيان الصوم لا يُفسده. وهذا مذهب الحنفية والمذهب عند الشافعية وبعض المالكية وبه قال الحسن البصرى وإسحاق ومجاهد وابن المنذر. وحجتهم ما أخرجه ابن ماجه والحاكم بإسناد فيه مقال عن ابن عباس أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله تعالى وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه». مع ما أخرجه البخارى ومسلم من أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليُتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه». وعند الترمذى بسند صحيح عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر، فإنما هو رزق رزقه الله»، قالوا: والجماع سهواً كالأكل سهواً. المذهب الثانى: يرى أن الجماع سهواً فى الصوم يفسده ويوجب الكفارة. وهو المشهور عند المالكية وظاهر المذهب عند الحنابلة، وهو مذهب الظاهرية. وحجتهم أن الحديث استثنى من أكل أو شرب ناسياً، ولم ينص على من جامع ناسياً، فيبقى فى حكم الأصل أنه يفسد الصوم؛ خصوصاً أن أمر الجماع فيه روّية وتباعد، فلا يُعذر الناسى فيه، بخلاف الأكل والشرب. وعلى المكلف العاقل بعد معرفته بالأقوال والأدلة فى المسألة أن يستفتى قلبه فى الاختيار حتى يتحمل المسئولية عن نفسه؛ لأن أحداً لن يغنى عن أحد من الله شيئاً. المسألة الثانية: القبلة للزوجة فى الصيام. وهذه لها ثلاث صور. الصورة الأولى: أن القبلة للزوجة تكون دون شهوة كقبلة الوداع فى السفر التى لا تسبب نزول مذى أو منى. فهنا مذهبان. المذهب الأول: يرى أن الصوم صحيح ولا تفسده القبلة غير المؤثرة بحدث. وهذا مذهب أكثر أهل العلم. وهل هذه القبلة جائزة أو مكروهة أو مستحبة؟ ثلاثة أقوال. الجمهور: يراها جائزة أو مباحة. والإمام مالك يراها مكروهة خشية التطور إلى المفطر. وذهب الظاهرية إلى أن هذه القبلة للصائم مستحبة. قال ابن حزم: هى سُنة حسنة نستحبها للصائم مع امرأته. ويدل لذلك ما أخرجه البخارى ومسلم عن عائشة قالت: كان النبى، صلى الله عليه وسلم، يقبل ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه (بفتح الراء وإسكانها). أى أنه كان أقدر الناس على ملك أمر نفسه وحاجتها، فلا تتمادى إلى المحظور. وأخرج أبوداود بإسناد صحيح، أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله، صنعت اليوم أمراً عظيماً. قبّلت وأنا صائم. فقال، صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم». فقال عمر: لا بأس. فقال صلى الله عليه وسلم: «فمه». بمعنى أن القبلة المجردة مثل المضمضة فى الوضوء لا تُفسد الصوم. المذهب الثانى: يرى أن القبلة للزوجة تُفطّر الصائم مطلقاً. وهو قول حكاه ابن حزم عن بعض السلف من الصحابة والتابعين، منهم ابن مسعود وعمر بن الخطاب وحذيفة وأبورافع وابن شبرمة. وحجتهم عموم قوله تعالى: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ» (البقرة: 187). قالوا: فهذه الآية تمنع من المباشرة، والقبلة من المباشرة. وأخرج الطحاوى وابن حزم وابن أبى شيبة، عن عمر بن الخطاب قال: رأيت النبى، صلى الله عليه وسلم، فى المنام، فرأيته لا ينظرنى. فقلت: يا رسول الله، ما شأنى؟ قال: ألست الذى تُقبّل وأنت صائم. فقلت: والذى بعثك بالحق إنى لا أقبل بعد هذا وأنا صائم. قال ابن حزم معلقاً على هذا الأثر: إن الشرائع لا تؤخذ بالمنامات؛ لا سيما أن النبى، صلى الله عليه وسلم، أفتى عمر فى اليقظة حياً بإباحة القبلة للصائم، فمن الباطل أن ينسخ ذلك فى المنام ميتاً. هكذا يكون الفقه بين الأخذ والرد؛ حتى يختار كل عاقل ما يُقنعه فى عبادة الله عز وجل، بصدق القلب وليس بتقليد الشيخ. الصورة الثانية: أن القبلة للزوجة تُسبب نزول منى. فهنا أكثر أهل العلم قالوا بفساد الصوم؛ لأن الإنزال كالجماع حكماً. وذهب الظاهرية إلى أن الصوم صحيح؛ لأن المفطر عندهم هو الجماع، وليس مجرد الإنزال؛ لعدم وجود نص يُثبت فساد الصوم به. أقول: غير أن الأمر بين يدى المكلف العاقل؛ لأن مسئولية الفقهاء تنتهى بالتبليغ والتعليم، ومسئولية المكلف العاقل تبدأ بعد العلم والمعرفة. فكل واحد من المكلفين يتحمل مسئولية نفسه فى العلاقة الدينية مع الله عز وجل، ويختار الرأى الذى يريح قلبه مثل الإيمان. الصورة الثالثة: أن القبلة للزوجة تكون بشهوة وحرارة وتسبب نزول مذى ولا تسبب نزول منى. فهنا اختلف الفقهاء على مذهبين. المذهب الأول: الحنفية والشافعية فى الجملة قالوا الصوم صحيح لا تفسده القبلة الحارة ولا يفسده خروج المذى؛ لأن المذى كالبول يُفسد الوضوء ولا يفسد الصوم. المذهب الثانى: المالكية والحنابلة فى الجملة: قالوا الصوم يفسد بالقبلة إذا أمذى منها؛ لأن المذى خرج بشهوة مع مباشرة، فكان كالمنى. أقول: والسيادة فى الاختيار لقلب المكلف العاقل؛ لأنه وعاء الإيمان، وكما أن الإيمان بالله لا يكون صحيحاً إلا بقناعة المؤمن واختياره فكذلك الفقه لا يكون العمل به صحيحاً إلا بقناعة الممتثل واختياره. المسألة الثالثة: الاحتلام والاستمناء باليد فى الصيام. أما الاحتلام نوماً فلا يُفسد الصوم بالإجماع لخروجه عن إرادة الإنسان، والاغتسال واجب للصلاة وليس للصوم. وأما الاستمناء باليد فقد اختلف الفقهاء فى بطلان الصوم به على مذهبين. المذهب الأول: يرى أن الاستمناء باليد يُفسد الصوم أو يبطله. وهذا مذهب جمهور الفقهاء، قال به أكثر الحنفية، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة. وحجتهم أن الجماع من غير إنزال يُفطر، فالأولى أن نحكم بالفطر إذا أنزل دون جماع. المذهب الثانى: يرى أن الاستمناء باليد لا يُفسد الصوم. وهو قول بعض الحنفية منهم أبوبكر بن الإسكاف وأبوالقاسم، وهو مذهب الظاهرية. وحجتهم أن مفطرات الصائم لا تكون بالقياس وإنما تكون بالنص؛ لأن الصوم عبادة، فلا نتزيّد فيها. ولا يوجد دليل صريح فى الكتاب أو السنة يبين فساد الصوم بالاستمناء؛ خصوصاً أن الاحتلام لا يُفطر الصائم بالإجماع. أقول: ومهما سمعت من أقوال فقهية فقلبك هو السيد فى الاختيار؛ لأنه لا يوجد أحد سوف يغنى عن الآخر أمام الله عز وجل، العالم والمتعلم سواء. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة أخرى.