الصيام المفروض أو الواجب يختلف عن الصيام المسنون أو التطوع أو النافلة فى حكم فعله على المكلف. فالصيام المفروض أو الواجب لا بد من فعله ديناً، وإذا لم يأت به المكلف أثم يوم القيامة، ووصف فى الدنيا بالعاصى لدينه. والصيام المفروض ثلاثة أنواع: (1) نوع نزل فرضه من السماء بحكم الدين، وهذا هو صيام رمضان بضوابط مخصوصة. (2) النوع الثانى من الصيام المفروض هو صيام الكفارات. والكفارة عبارة عن عقوبة لذنب دينى، فرضها الله تعالى على من يرغب فى تكفير ذنبه يعنى ستره ومحوه. وليس أى ذنب له كفارة، إنما الكفارات لذنوب مخصوصة ومحصورة بدليل مخصوص. ومن أشهرها: الظهار، وهو تشبيه الزوجة التى أحل الله علاقتها الخاصة مع الزوج بأمه أو أخته، فيقول لها مثلاً هى عليه حرام مثل أمه أو أخته. هذه العبارة وصفها القرآن الكريم بأنها عبارة منكرة وزور؛ لأنها مع مخالفتها للواقع تؤذى مشاعر الزوجة، ويندم الزوج بعدها؛ لأنه لا يستطيع فراق زوجته غالباً. فرحمة بالزوجين وأولادهما قد جعل الله للزوج المظاهر كفارة ليواصل حياته مع زوجته. هذه الكفارة إذا لم يجد عتق رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين. هذا الصوم واجب لكن وجوبه ليس كوجوب صيام شهر رمضان. أنت تصوم الكفارة كعقاب عن خطيئة، ولكن تصوم شهر رمضان بأصل الدين. وإذا لم يستطع المظاهر الصوم أطعم ستين مسكيناً. (3) النوع الثالث من الصيام الواجب هو صيام النذر. والنذر عبارة عن وعد من العبد لربه بلفظ النذر أن العبد يأتى بطاعة كانت مسنونة فى حقه ويلزم نفسه بها. وكثيراً ما نسمع هذا النذر معلقاً مثل أن يقول المكلف: يا رب إن نجحت فى الامتحان، أو إن ربحت تجارتى لأصومن لله يوماً أو يومين نذراً. هنا أصبح صيام هذا اليوم واجباً ديناً بهذا النذر. أما صيام السنة أو التطوع أو النافلة فليس واجباً. بمعنى أن من يصوم صيام سنة فله ثوابه، ومن لا يصوم أياماً تطوعاً فهو محروم من الثواب وليس عليه عقاب، ولهذا فإنه يطلق على هذا الصيام المسنون بأنه صيام تطوع؛ لأن الصائم هو من صام من تلقاء نفسه، كما أنه يسمى صيام النافلة؛ لأنه زيادة على الفرض. وإذا كان الله تعالى قد فرض علينا صيام شهر رمضان فإننا بعد أدائه نطلب المزيد فنصوم الأيام الستة من شوال مثلاً، فهذه الزيادة هى النافلة. وصيام السنة أو النافلة نوعان: (أ) سنة معينة. وهذا النوع من الصيام قد ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم طلب فعله بالاسم لمن يريد زيادة ثواب مثل صيام يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر المحرم، ويدل عليه ما أخرجه مسلم عن أبى قتادة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى صوم عاشوراء: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله». ومثل صيام يوم عرفة، وهو التاسع من ذى الحجة، الذى يدل عليه حديث صحيح مسلم عن أبى قتادة، أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: «أحتسب على الله أن يكفر السنة التى قبله والسنة التى بعده». ومثل صيام ستة أيام من شوال بعد صيام شهر رمضان، ويدل عليها حديث صحيح مسلم عن أبى أيوب الأنصارى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر». (ب) سنة مطلقة، وهذا النوع الثانى من صيام النافلة هو صيام أى يوم يحب المكلف أن يقدمه لله، وهو غير منصوص عليه. والحقيقة أن هدفنا فى التفرقة بين صيام الفرض وصيام السنة فى أنابيشنا الفقهية لا يقف عند مجرد بيان اللزوم وعدمه، وإنما يمتد إلى بيان الأحكام المفصلية التى تجعل المكلف واثقاً من نفسه أمام أوصياء الدين الذين يفتئتون على الآخرين ويشككونهم فى أنفسهم. ولأن الفروق الجوهرية بين الصوم المفروض أو الواجب وبين الصوم المسنون أو التطوع كثيرة، فإننا سنكتفى ببيان أربعة أحكام هى: (1) سلطة الصائم على نفسه. (2) استئذان الزوجة زوجها قبل الصيام. (3) تبييت النية للصوم. (4) الأكل أو الشرب سهواً فى الصوم. الحكم الأول: سلطة الصائم على نفسه. الصوم المفروض واجب الإتمام، فعلى الصائم إذا شرع فيه أن يتم صومه، وليس له خيار آخر إلا لعذر شرعى كالمرض أو السفر أو الحيض. أما الصوم المسنون فإن الفقهاء قد اختلفوا فى سلطة الصائم على نفسه إذا شرع فيه على مذهبين. المذهب الأول قال به الحنفية والمالكية قالوا: يجب على الصائم ولو كان صيامه مسنوناً أن يتم صومه، ويحرم عليه أن يفطر إلا من عذر. ولو أفطر من غير عذر فعليه القضاء؛ لحديث صحيح مسلم عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعى أحدكم -أى إلى طعام- فليجب، فإن كان صائماً فليصل -أى فليتوجه بالدعاء لصاحب الطعام ولا يفطر- وإن كان مفطراً فليطعم». قالوا: فلو كان يجوز للمتطوع بالصوم أن يفطر لأذن النبى صلى الله عليه وسلم للضيف أن يأكل. المذهب الثانى قال به الشافعية والحنابلة والظاهرية. قالوا: المتطوع بالصوم سيد قراره، له فى أى وقت أن يفطر، ولا إثم عليه ولا قضاء. واستدلوا بحديث أخرجه مسلم عن عائشة قالت: أهدى لنا حيس (طعام مكون من تمر وسمن وأقط وهو اللبن المجفف) فقال صلى الله عليه وسلم: «أرينيه فلقد أصبحت صائماً» وأكل منه. كما استدلوا بحديث أخرجه أحمد والبيهقى والترمذى بسند فيه مقال عن أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر». وفى رواية: «أمين نفسه». إن الدرس الذى نأخذه من هذا الحكم هو أن المكلف سيد قراره فى صيام التطوع إن شاء أتمه وإن شاء أفطر. وهذا على مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية. لكن على مذهب الحنفية والمالكية يجب على المتطوع بالصوم أن يتمه إذا شرع فيه وإلا وجب عليه القضاء مع الإثم. فلو ابتلى المكلف بمن لا يعرف غير مذهب أبى حنيفة ومالك ورآه قد أفطر فى صيام السنة، فإنه سيتهمه بارتكاب الحرام ويخبره بوجوب القضاء شرعاً، وهو لا يدرى أن مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية بخلاف ذلك، وهذه مشكلة أوصياء الدين الذين لا يعرفون كل الآراء الفقهية فى المسألة أو إذا عرفوها اختصروها فى الرأى الذى يقتنعون هم به. الحكم الثانى فى الفرق بين صيام الفريضة وبين صيام النافلة أو السنة هو استئذان الزوجة زوجها قبل الصيام. صيام الفريضة لا يحتاج إلى استئذان أحد الزوجين صاحبه؛ لأن الفرض فوقى من السماء بحكم الدين. أما صيام النافلة أو التطوع أو السنة فمن حق الزوج أن يصومه دون إذن زوجته بدون خلاف؛ لأن الزوجة لو طلبت زوجها وهو صائم صيام تطوع سيلبى طلبها غالباً. أما الزوجة فيجب عليها أن تستأذن زوجها الحاضر فى صيام السنن أو النوافل عند الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة. قالوا: وعلم المرأة برضا الزوج كإذنه، وغيابه فى سفر أو عمل أو مرض يرفع حكم وجوب الإذن؛ لزوال معنى النهى. ويدل على وجوب استئذان الزوج فى صيام التطوع ما أخرجه البخارى ومسلم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه». زاد أحمد وأبوداود: «غير رمضان». قالوا: وإذا صامت المرأة تطوعاً بدون إذن زوجها صح صيامها ولزوجها أن يفطرها إذا كان محتاجاً إليها. وذهب الشافعية إلى أن استئذان الزوجة لزوجها فى صيام التطوع خاص بالأيام التى تتكرر مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر والاثنين والخميس. أما صيام الأيام التى لا تتكرر فى السنة مثل عاشوراء وعرفة والستة من شوال فللزوجة أن تصومها بدون إذن الزوج. وإذا كان فى مذهب الشافعية مخرج للزوجات وعند الجمهور تعظيم لحق الزوج فإنه يجب على الزوجين جميعاً إبعاد الصوم أو العبادة من خصوماتهما؛ حتى لا يكره الناس العبادة، فالزوج الذى يريد إغاظة زوجه الآخر بالإكثار من الصوم أو الإطالة فى الصلاة. فإنه يسىء للعبادة بما لا يليق. الحكم الثالث فى الفرق بين صيام الفريضة وصيام النافلة أو السنة هو تبييت النية للصوم. إذا كان الصوم فريضة فلا بد من تبييت النية من الليل بدون خلاف فى الجملة. فلو كنت مسافراً أو مريضاً فى شهر رمضان، وقررت أن تفطر من الليلة السابقة واستيقظت فى وقت الضحى وأنت على نية الفطر، ثم عدلت عن كلامك وقلت طالما لم أطعم شيئاً فسأكمل اليوم صياماً، أو سأصومه كفارة يمين، أو نذر كان عليك. هنا نقول إن هذا الصوم لأداء واجب وقع بدون تبييت نية، فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية يرون هذا الصيام غير صحيح؛ استدلالاً بما أخرجه البخارى عن عائشة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له». أما الحنفية فقالوا: لو كان هذا فى صيام رمضان فالصيام صحيح؛ لأن شهر رمضان معين بالشرع فلا يحتاج إلى تبييت، والتعيين يقوم مقام التبييت أما لو كان هذا الصيام فى واجب كفارة أو نذر مطلق فلا يصح بدون تبييت؛ لأنه متعلق بالذمة وليس معيناً. أما صيام النافلة مثل أن تستيقظ من النوم فى أى يوم من أيام السنة وتنطلق إلى شغلك بدون أن تأكل شيئاً، ولم يكن فى بالك أن تصوم وفى منتصف النهار رأيت أن فى إمكانك أن تكمل اليوم صياماً، فهل لك أن تنوى صيام هذا اليوم نافلة أو تطوعاً؟ هنا ثلاثة مذاهب. المذهب الأول: يرى أنه لا صيام من غير تبييت للنية مطلقاً. وهذا مذهب المالكية والظاهرية؛ لعموم حديث البخارى عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له». المذهب الثانى: يرى أن صيام النافلة مبناه التيسير لتشجيع الناس عليه فيجوز عقد نية صوم التطوع فى النهار بشرط ألا يكون سبق له الطعام أو الشراب. وهو مذهب الشافعية والحنابلة. واستدلوا على ذلك بما أخرجه مسلم عن عائشة، قالت: دخل علىّ النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: «هل عندكم من طعام؟» قلنا: لا. قال: «فإنى إذن صائم». المذهب الثالث: يرى التفريق فى صيام النافلة بين المعين كيوم عاشوراء ويوم عرفة فهذا يصح صومه بدون تبييت؛ لأن التعيين يقوم مقام التبييت. وبين المطلق غير المعين كصيام يوم تطوعاً فهذا لا يصح إلا بتبييت النية من الليل. وهو مذهب الحنفية. قالوا: لأن الصوم المتعلق بالذمة مطلق فلا يتقيد إلا بالتبييت بخلاف الصوم المعين؛ لما أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم عن الربيع بنت معوذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء (أى فى الضحى) إلى قرى الأنصار حول المدينة: «من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه». الحكم الرابع فى الفرق بين صيام الفريضة وصيام النافلة أو السنة هو الأكل أو الشرب سهواً فى أثناء الصوم. ذهب جمهور الفقهاء إلى أن السهو فى الصوم لا يفسده سواء أكان الصوم فى صوم الفرض أو فى صوم النفل؛ لما أخرجه البخارى ومسلم عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من نسى وهو صائم، فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه». وذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أن السهو فى رمضان يوجب القضاء؛ لأن المطلوب تحقق الصوم. أما السهو فى النافلة فلا يفسد الصوم؛ لأن السنن مبنية على التيسير. ولأن الحديث ليس فيه نص على أنه فى رمضان فيجب حمله على التطوع. ومن حق المكلف أن يختار الرأى الذى يقنعه دون أن يفتئت عليه أحد. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله تعالى مع أنبوشة فقهية أخرى.