نعلم جميعاً أن الوصف المعتاد للصوم فى رمضان هو أن يتسحر المكلف بوجبة طعام خفيفة قبل أذان الفجر، ثم يمسك عن الطعام والشراب والرفث إلى النساء إلى أذان المغرب، وبمجرد ابتداء الأذان للمغرب يقطع صيامه بشربة ماء أو حبة تمر أو ما تيسر من طعام أو شراب. ويمسى من حقه أن يأكل وأن يشرب وأن يعيش مع زوجته فى الحلال إلى أذان الفجر، ثم يمسك من جديد إلى المغرب، وهكذا حتى ينتهى الشهر بغروب شمس آخر يوم فيه. وإذا كان ذلك صوم المسلم المعتاد، فقد لوحظ وجود بعض المتشددين فى صومه، فيزيد على نفسه ساعات الإمساك عن المفطرات، وأحياناً يوصل صوم اليومين والثلاثة. فحتى لا يتوهم أحد أن الذى يتغالى فى الصوم، ويشدد على نفسه فيه سوف يأخذ ثواباً أكبر أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بتعجيل الفطر فى أول وقته، وتأخير السحور إلى آخر وقته، ونهانا عن الوصال فى الصوم. غير أن كل هذه الأوامر والنواهى ليس لها تفسير واحد، بل لها أكثر من تفسير، وكل تفسير منها مقنع من زاويته لناس دون ناس. فكان من حق كل مكلف أن يتعرف على أقوال الفقهاء المختلفة فى تفسيرهم للأوامر والنواهى الشرعية؛ لأن كل مكلف سوف يجد نفسه فى واحد منها، وغيره قد يجد نفسه فى القول المخالف لاختيار صاحبه. والعدالة تستوجب أن تكون عادلاً ومنصفاً من نفسك، وأن تترك غيرك يستمتع بحرية الاختيار الفقهى مثلك تماماً، فأنت لست أفضل من غيرك، ولا غيرك أفضل منك. كلنا عبيد لرب واحد، وهو الرب العظيم العادل بين خلقه، وسَمَّى نفسه العدل، فلم يأذن لمخلوق ولو كان سيد الخلق أن يكون وصياً على الناس فى الدين. وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر» (الغاشية: 21، 22)، وقال أيضاً: «ما على الرسول إلا البلاغ» (المائدة: 99). وإذا كان التذكير والإبلاغ هو وظيفة الرسول، فهل يصح لمن دونه أن يكون وصياً دينياً على الناس يحملهم على فهمه وثقافته؟ سوف نعالج قضية التشدد أو المبالغة المكروهة فى الصوم من خلال تحليل الفقهاء للأوامر والنواهى الواردة فى التضييق على المزايدين فيه. أولاً: الأوامر فى وصف الصوم الشرعى من تعجيل الفطر وتأخير السحور، ومنها: 1- ما أخرجه البخارى ومسلم عن سهل بن سعد، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر». وأخرجه أحمد بسند فيه مقال عن سهل، بلفظ: «لا تزال أمتى بخير ما عجلوا الفطر، وأخروا السحور». 2- وأخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «استعينوا بطعام السحر على صيام النهار، وبالقيلولة على قيام الليل». 3- وأخرج مسلم عن عمرو بن العاص، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر». 4- وأخرج ابن أبى شيبة وأحمد وأبوداود بإسناد حسن عن أبى هريرة، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر. إن اليهود والنصارى يؤخرون». ومع وضوح هذه النصوص الشرعية فى تعجيل الفطر وتأخير السحور للصائم، ومع بيان القرآن الكريم فى وقت الصيام الشرعى فى قوله تعالى: « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ» (البقرة: 187). إلا أننا وجدنا الفقهاء قد تعددت فهومهم؛ لاعتقادهم أن المسئولية الدينية ترجع إلى الفهم والاقتناع ولا ترجع إلى مطلق النص الذى يحمل معانى متعددة، فليس أحد هذه المعانى أولى بالاتباع من المعنى الآخر إلا باطمئنان قلب المتدين لنفسه. لذلك كان من حق كل إنسان أن يتعرّف على أقوال الفقهاء فى تعجيل الفطر وتأخير السحور. ونحاول إيجازها سريعاً: (1) أما السحور، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن تأخيره يبدأ من نصف الليل الأخير إلى طلوع الفجر. وذهب بعض الحنفية والشافعية إلى أن تأخيره يبدأ من السدس الأخير من الليل حتى طلوع الفجر. (2) وأما الفطر، فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن تعجيله يبدأ من مغيب الشمس وهو عند قيام المؤذن بالإعلان. وحكى ابن حزم فى كتابه «المحلى» أن أبا موسى الأشعرى يرى أن الفطر يبدأ حين تبدو الكواكب. قال ابن حزم: ولا نقول بهذا. ثانياً: النواهى فى وصف الصوم الشرعى من الوصال فيه، ومنها: (1) ما أخرجه البخارى عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل، فقال صلى الله عليه وسلم: «وأيكم مثلى إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقينى». فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: «لو تأخر الهلال لزدتكم. كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا». (2) ما أخرجه البخارى عن أبى سعيد الخدرى، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر». قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: «لست كهيئتكم. إنى أبيت لى مُطْعِم يُطعمنى، وساقٍ يسقينى». ومع وضوح النهى عن الوصال إلا أن الفقهاء اختلفوا فى تحديد معنى الوصال المنهى عنه فى الصوم، كما اختلفوا فى حكم وصال اليومين والaثلاثة للمكلف، كما اختلفوا فى حكم الوصال إلى السحر مع إذن النبى، صلى الله عليه وسلم الصريح فيه. (1) أما تفسير الوصال فى الصوم ففيه ثلاثة مذاهب فى الجملة. أ- جمهور الفقهاء يرى: أن المقصود بالوصال فى الصوم هو عدم الفطر بأى مفطر عند مغيب الشمس سواء بالأكل والشرب أو بالرفث إلى النساء، بل يستمر على صومه يومين فأكثر. ب- بعض الشافعية يرى: أن المقصود بالوصال فى الصوم هو عدم الفطر بالطعام والشراب فقط عند مغيب الشمس، بل يستمر على صومه يومين فأكثر لا يأكل ولا يشرب، وإنما يمكن أن يلتقى مع زوجته، فهذا لا يقطع الوصال عند هؤلاء الفقهاء من الشافعية. ج- بعض الحنفية يرى: أن المقصود بالوصال فى الصوم هو أن يصوم الدهر، يعنى طوال السنة حتى الأيام المنهى عن الصيام فيها مثل العيدين، لكنه يفطر يومياً بعد مغيب الشمس. ولكن هذا التفسير الوارد عند بعض الحنفية يجعل الوصال من مسائل صوم الدهر وصوم الأيام المنهى عنها، وهذه مسألة لها باب آخر هو باب الأيام المنهى عن صيامها. (2) وأما حكم وصال اليومين والثلاثة فى الصيام للمكلف فقد اختلف فيه الفقهاء على ثلاثة مذاهب. المذهب الأول: يرى أن وصال صوم اليومين والثلاثة حرام، حتى لو كان قادراً عليه. وهو مذهب الظاهرية والأصح عند الشافعية؛ للنهى الصريح عنه فى الأحاديث الصحيحة. المذهب الثانى: يرى أن وصال صوم اليومين والثلاثة حرام لغير القادر، ومكروه للقادر عليه. وهذا مذهب جمهور الفقهاء قال به الحنفية والمالكية والحنابلة؛ لأن النبى، صلى الله عليه وسلم، ترك بعضهم يواصل معه كالمنكل بهم، فلو كان حراماً لمنعهم من الوصال. المذهب الثالث: يرى أن وصال اليومين والثلاثة للقادر عليه سنة يؤجر فاعلها. وهو قول بعض الصحابة والتابعين منهم عبدالله بن الزبير، وأخت أبى سعيد الخدرى، ومن التابعين عبدالرحمن بن أبى نعيم، وعامر بن عبدالله بن الزبير وأبوالجوزاء وإبراهيم بن يزيد التيمى. وحجتهم أن النبى صلى الله عليه وسلم واصل ببعض أصحابه لما رآهم قادرين. (3) وأما حكم الوصال إلى السحر للصائم فقد اختلف فيه الفقهاء على مذهبين. يرى جمهور الفقهاء: أن الوصال إلى السحر للصائم مكروه؛ لاستحباب تعجيل الفطر. وذهب الحنابلة: إلى جواز الوصال إلى السحر؛ لحديث أبى سعيد الخدرى عند البخارى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر». بهذا العلم والتنوير يتمكن المكلف من أن يكون سيد قراره فى الاختيار الفقهى، ولا يترك نفسه للمفتئتين الذين يحرمونه حق السيادة على نفسه بالاختيار لها. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية أخرى.