كل الناس يعلم ما معنى الأكل والشرب، وهو ما يتبادر إلى الذهن فى الممنوعات نهار الصوم، امتثالاً لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187). لكن ليس هذا المعنى الشائع هو المقصود فى أنابيشنا الفقهية، نحن نعالج المسائل الدقيقة التى تحدث للإنسان بين الحين والحين، ولا تخطر على باله فى الأوضاع الطبيعية، وعندما تحدث يحار ويبدأ فى التساؤل، وقد يقع فريسة لأصحاب الرأى الواحد. ومن أهداف أنابيشنا الفقهية مساعدة من يعرفها على استرداد سيادته فى الاختيار الفقهى؛ لكى يكون سيد قراره عندما يعرف أقوال الفقهاء المعتبرين فى المسألة الواحدة. ومن أهم هذه المسائل الدقيقة: دخول الطعام من غير الفم، الأكل والشرب بالإكراه، أكل ما لا يسمى أكلاً كالحصى والزجاج، بلل الفم بالمضمضة، بلع دم اللثة والبصاق والنخامة، ابتلاع ما بين الأسنان، ونبين ذلك تباعاً: (1) دخول الطعام من غير الفم، كما لو دخل الطعام بخرطوم من الأنف، أو من فتحة جراحية من البطن، وفى حكمه حقنة الوريد المغذية. وقد اختلف الفقهاء فى حكم الفطر بهذا الطعام على مذهبين: المذهب الأول: يرى أنه لو دخل الطعام جوف الصائم من مداخل طبيعية مثل الأنف والأذن فهذا يفطر الصائم، ولو دخل من غير فتحة طبيعية فى الجسم فلا يسمى هذا أكلاً، ويبقى الصائم على صومه. وهذا مذهب الجمهور، قال به الحنفية والمالكية والشافعية؛ لأن العبرة عندهم بشكل الدخول إلى الجوف؛ أن يكون طبيعياً. المذهب الثانى: يرى أن كل طعام يدخل الجوف فى المعدة أو حتى الدماغ بأى طريقة جراحية أو بخرطوم من فتحة طبيعية أو طبية - فى حكم الأكل الذى يفطر به الصائم. وهذا مذهب الحنابلة؛ لأن العبرة عندهم بحقيقة الدخول إلى الجوف. (2) الأكل والشرب بالإكراه، سواء أكان الإكراه عفوياً مثل من تثاءب فدخل فى حلقه حشرة أو تطاير إليه طعام، أم كان الإكراه عدوانياً مثل من يُصَبُّ الدواء فى حلقه مكرهاً أو الإطعام بالإكراه. فقد اختلف الفقهاء فى حكم الفطر بذلك على مذهبين: المذهب الأول: يرى أن الإكراه على الفطر ليس فطراً. وهذا مذهب الشافعية والحنابلة فى الجملة؛ لما أخرجه ابن ماجه والحاكم بسند فيه مقال عن ابن عباس، أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه». المذهب الثانى: يرى أن الأكل أو الشرب والدواء يُفطر الصائم ولو بالإكراه. وهذا مذهب الحنفية والمالكية فى الجملة؛ لأن العبرة بحدوث الطعام والشراب دون أسبابه. (3) أكل ما لا يسمى أكلاً مثل الحصى والزجاج والرمل. ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يفطر الصائم؛ لأنه فى حكم الطعام والشراب، فإن وجوده فى المعدة لا يشعرها بالجوع فكان مثل الطعام الحقيقى. وأشار ابن رشد فى «بداية المجتهد» إلى وجه احتمالى أن غير المغذى لا يفطر الصائم؛ لأن الصوم فى نظرهم ليس عبادة غير معقولة المعنى، بل هو عبادة معقولة المعنى، ويمنع من الأكل والشرب المغذيين، فلا يدخل فى المفطرات غير المغذى لأنه ليس أكلاً حقيقة ولا شرباً حقيقة.ويجب عليك وأنت تسمع هذا الفقه أن تتعقله، وأن تستحضر قلبك الإيمانى الذى لن يخطئك النصيحة بإذن الله. (4) بلل الفم والمضمضة. هذا لا يفطر الصائم سواء أكان بمناسبة الوضوء أم بغير مناسبته؛ لأن الفم فى حكم الظاهر كالأنف والعين، وقد أخرج أحمد وابن خزيمة والنسائى والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب، قال: هششت يوماً، فقبَّلت وأنا صائم، فأتيت النبى -صلى الله عليه وسلم- فقلت: صنعت اليوم أمراً عظيماً، فقبلت وأنا صائم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟»، فقلت: لا بأس بذلك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «ففيم؟» أو «فمه؟»، أى: فما الفرق؟ ولكن المشكلة إذا تمضمض وسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف، فقد اختلف الفقهاء فى هذه الصورة على مذهبين: المذهب الأول: يرى صحة الصوم لو سبق قليل من ماء المضمضة إلى الحلق. وهو قول عند الشافعية وإليه ذهب الحنابلة وبه قال الأوزاعى وإسحاق بن راهويه؛ لعدم الإرادة مع مشروعية المضمضة فى ذاتها. المذهب الثانى: يرى فساد الصوم إذا سبق الماء ولو قليلاً إلى الجوف بسبب المضمضة. وهو مذهب الحنفية والمالكية والقول الثانى عند الشافعية؛ لحدوث دخول الماء إلى الجوف، والعبرة بالحدث. (5) بلع دم اللثة والبصاق والنخامة. أما دم اللثة فبلعه يفطر الصائم لمجرد تغير الريق عند الجمهور. وذهب الحنفية إلى العفو عن القليل من الدم الذى يغلب عليه الريق، أما إذا غلب الدم على الريق فيفطر الصائم. وأما البصاق والريق إذا جمعه، فإن كان قد خرج إلى شفتيه ثم بلعه، أو كان بصاق إنسان آخر عمداً - فإنه يفطر الصائم بغير خلاف، واستثنى الحنفية خروج البصاق لترطيب الشفتين عند الكلام، ثم بلعه فهذا لا يفسد الصوم. أما إن كان البصاق لم يخرج من فمه فبلعه فإنه لا يفطر ولو كان كثيراً فى الجملة. وأما النخامة، وهى البلغم، إذا بلعها الصائم مع قدرته على إلقائها، ففى حكم صيامه مذهبان: المذهب الأول: الحنفية والمعتمد عند المالكية ورواية عند الحنابلة يرون أن الصوم صحيح لا يفسد ببلع النخامة؛ لأنه معتاد فى الفم فكان فى حكم الريق أو البصاق. المذهب الثانى: الشافعية والمنصوص عند الحنابلة يرون أن بلع النخامة يفطر الصائم؛ لإمكان التحرز منها، ولأن النخامة تنزل من الرأس وليست كالبصاق أو الريق الذى يأتى من الجوف. وكل هذه الأقوال الفقهية يمكنك أن تصل إليها وحدك بشىء من التفكر، وقلبك أصدق عند الاختيار، لكن إياك أن تضر نفسك بالوسوسة! (6) ابتلاع ما بين الأسنان. اختلف الفقهاء فى حكمه للصائم على أربعة مذاهب فى الجملة: المذهب الأول: يرى فساد الصوم ببلع ما بين الأسنان من طعام إذا كان كثيراً يمكن التحرز منه، أما القليل فيما دون الحمصة فبلعه لا يفطر الصائم. وهذا مذهب الحنفية. المذهب الثانى: يرى أن بلع ما بين الأسنان يفطر الصائم مطلقاً، سواء أكان قليلاً أم كثيراً قادراً على مجه أم غير قادر. وهو قول زفر من الحنفية وقول للشافعية؛ لأن الفم له حكم الظاهر، فكأنه أدخل الطعام فى فمه. المذهب الثالث: يرى صحة الصوم لمن بلع ما بين أسنانه مطلقاً، أى سواء أكان قليلاً أم كثيراً، ولو عمداً. وهو مذهب المالكية؛ لأنه أخذه فى وقت يجوز له أخذه فيه. المذهب الرابع: يرى صحة الصوم لمن بلع ما بين أسنانه بشرط أن يعجز عن مجه، فإن استطاع إخراجه واختار البلع فقد فسد الصوم. وهو القول الثانى للشافعية ومذهب الحنابلة وبعض المالكية وقول الظاهرية؛ لأنه إن استطاع مجه فلم يفعل كان فى حكم العامد إلى الطعام. هكذا نجد التعددية الفقهية باب رحمة للمسلمين، ومن يرفضها فإنه يكره الخير واليسر للناس. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية أخرى