التوظيف السياسى للدين أمر قديم قدم الصراع الإنسانى على السلطة، فى الحضارات القديمة كما فى العصور الوسيطة والعصور الحديثة، والتاريخ محتشد بتجاربه المتعددة، التى كانت تحتمى كلها بالخصوصية والتمايز، بدءاً من نموذج «الملك الإله» مروراً «بالدولة الثيئوقراطية» بتنوعاتها ومرجعياتها المختلفة، وحتى «الحكم بما أنزل الله»، وقد شهد القرن الرابع الميلادى حنكة ودهاء الإمبراطور الرومانى قسطنطين الأول فى توظيف الدين لحساب توسعاته الإمبراطورية حين اعتمد الصليب راية وعلامة على بيارق الجيوش استناداً إلى رواية روج لها عن رؤية ليل رأى فيها الصليب مرفرفاً ويصاحبه صوت يقول له «بهذا تنتصر» فكان أن ألهب المشاعر وحشدها فى معاركه التوسعية ويكاد يبسط نفوذه على كل العالم القديم، ويشهد القرن الأول الهجرى تنويعات إسلامية على نفس نغمة توظيف الدين كان بطلها معاوية بن أبى سفيان بمشورة عمرو بن العاص باللجوء إلى التحكيم والاحتكام إلى كتاب الله (فى معركة صفين 37 ه)، ورفعت المصاحف على أسنة الرماح فى جيش معاوية، وانتهى الأمر إلى انتصاره، ليؤسس فيما بعد الدولة الأموية. وحين تسقط الخلافة العثمانية (1923م) لا تسقط معها نظرية التوظيف تلك، وتتشكل جماعات يخايلها حلم إحياء الخلافة، كان أبرزها جماعة الإخوان المسلمين (1928م) ومنها تتوالد الجماعات التى تتفق معها فى الهدف وتختلف عنها فى الطريق. وقد شهد العالم بعد انتهاء الحرب الباردة ما بين نهاية الستينات وبدايات السبعينات من القرن العشرين صعود اليمين الدينى بشكل متزامن، اليمين المسيحى بالولايات المتحدةالأمريكية برعاية ريتشارد نيكسون، والقومية الهندوسية بالهند وفق تخطيط ودعم أنديرا غاندى، والأصولية الإسلامية بمصر الذى أطلق شرارتها أنور السادات، والملاحظ فى هذه الخبرات الثلاث أنها أزاحت وهمشت ما سبقها من تجارب مدنية قومية تقدمية، وشهدت تقلبات عنيفة للنخب الليبرالية والتقدمية بها، من المغازلة والتودد للجماعات الدينية إلى تبنى رؤاها وصولاً إلى الانقلاب على ما كانوا ينادون به قبلاً. الملاحظة المثيرة للدهشة أن نهاية المؤسسين الجدد لتوظيف الدين سياسياً كانت متقاربة، «نيكسون» أُجبر على الاستقالة بعد فضيحة التنصت على المنافسين وكذبه (متدين وكاذب)، «السادات» اغتيل على يد أصوليين متشددين إسلاميين، «أنديرا» اغتيلت على يد أصوليين متشددين من طائفة السيخ المناوئة، هل هى مجرد مصادفة تاريخية؟! وفى هذا السياق يطرح الكاتب الأمريكى «سكوت هيبارد» فى كتابه «الدين ووظائفه السياسية»، مكتبة الأسرة 2013، تساؤلاً: هل ينبغى تعريف المجتمع (ومن ثم الأمة) وفقاً لقيم التضمين والتسامح (عصب الدولة القومية)، أم أنه ينبغى لإرادة شريحة معينة من الغالبية السكانية أن تهيمن.. بتعبير آخر؛ هل لا بد للمجموعة المهيمنة ولهويتها الدينية أن تُمنح الأفضلية فى المجال السياسى، أم أنه ثمة إلزام على سلطات الدولة لحماية حقوق الأقليات والتنوعات الثقافية؟! أينبغى لتوجهات الغالبية أن تحكم الحياة العامة فى المجتمع المغلق، أم عليها أن تقبل التنوع، وأن تعكس بذلك قيم التنوير للمجتمع المفتوح؟! ظنى أن تساؤلات «هيبارد» تستحق أن نضعها محل بحث مدقق وموضوعى، وأمامنا درس التاريخ الدائم والمتكرر والذى لا نلتفت إليه، أن انهيار الحضارات الكبرى بدأ مع هيمنة القوى الدينية على سلطة الحكم، حدث هذا مع الحضارة المصرية القديمة بعد تسلل الكهنة إلى الحكم بعد أخناتون، ومع الحضارة الرومانية بعدما تحولت إلى طرف فى الصراع اللاهوتى، هل نستوعب درس التاريخ؟