تتميز مرحلة الطفولة عادة بالأحلام الوردية، ففي خيال الطفل عالم آخر موازٍ للعالم الواقعي الذي نعيشه، عالم لا مشاكل فيه ولا صراعات، الكل يعيش سعيدًا والكل يحقق أحلامه، ولكل طفل حلم يراوده ويتمنى أن يأتي ذلك اليوم لتحقيقه مهما كان هذا الحلم طفولي أو غير واقعي، وإن كنت مثلي ممن قضوا طفولتهم قبل كل التغيرات السياسية في الوطن العربي فغالبًا إجابتك عن سؤال مثل "نفسك تبقى ايه لما تكبر؟" كانت "نفسي أبقى ظابط". كنا نجيب عن السؤال بمنتهى البراءة حتى وإن كانت الإجابة غير واقعية؛ لأنها مبنية على مشهد ضابط الشرطة الذي يظهر في أفلام الكارتون ليحارب الأشرار وينصر الخير على الشر، وليس ضابط الشرطة الذي يتعرض للمخاطر يوميًا، ولا ضابط الشرطة الذي يجب أن يكون لائقًا بدنيًا، وكل المحاولات التي يمكن أن يبذلها أي شخص لإبعاد تلك الفكرة عن رأس طفل اقتنع بها بالتأكيد ستبوء بالفشل. لعلك تبتسم الآن وأنت تتذكر تلك اللحظات التي كان يراودك فيها حلم من أحلام الطفولة، ولكن ما رأيك فيمن يفكر بنفس الطريقة وهو قد تعدى مرحلة الطفولة بمراحل؟ مبدئيًا دعنا نحلل الطريقة التي يفكر بها هذا الطفل، هو يريد أن يكون ضابطًا لأنه في نظره نموذجًا الذي تتجسد فيه كل معاني الشجاعة والإقدام وانتصار الخير على الشر، وهي أمور مٌقدرة بشكل كبير عند الأطفال، فبالتالي هو لم يعد يرى سوى هذا النموذج الذي يريد أن يصبح مثله يومًا ما، فهو يرى طريقًا واحدًا فقط للنجاح وتحقيق الأحلام. هكذا يفعل بعضنا ولكن بطريقة أكثر تعقيدًا بحكم المرحلة العمرية، فكثيرًا ما نطرق بابًا واحدًا للنجاح في إنتظار اللحظة التي سيٌفتح فيها هذا الباب، ولا نطرق غيره. وفي بعض الأحيان يكون الأمر أكثر صعوبة حينما نظن أن النجاح والتميز مرتبطان بفئة معينة دون غيرها، فكثيرًا ما كنت أسمع في طفولتي أن فلانًا ليس ذكيًا؛ والدليل الدامغ على ذلك أنه لا يجيد التعامل مع الرياضيات في المدرسة، تترسخ هذه الفكرة منذ الطفولة وتنتقل عبر الأجيال لتؤصل لمفهوم خاطئ وهو أن الذكاء نوع واحد، وبذلك يصبح النجاح حكرًا على من يمتلكونه فقط، والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى خلقنا لنتكامل، فلو كنا جميعًا نمتلك نوعًا واحدًا من الذكاء لهلكت البشرية؛ فليس هناك من يكمل ما ينقصنا، وإن كنا جميعًا نمتلك كل أنواع الذكاء لعمل بعضنا على فناء بعض، فلماذا أقسم الطعام معك إن كنت لا أحتاجك؟! هكذا خلقنا الله سبحانه وتعالى، بمهارات وقدرات عديدة، ولكل منها فرص للتميز والنجاح، فلا تطرق بابًا واحدًا، ولا تظن أن مخلوقًا على الأرض بلا فائدة.