الحر هو السيد على نفسه الذى يملك أمرها فيما يكون لها من قرار، ويثق فى عقله ويخضع لما يطمئن إليه قلبه، ويحترم غيره فلا يتدخل فى إرادات الآخرين؛ لأنه يرفض تدخلهم فى إرادته ويمتنع عن إخضاعها إلا لله، سبحانه، الذى أنار طريق البشرية فى قرآنه وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، بأصلين شرعيين. الأصل الأول: التوكل على الله باستفتاء القلب والاعتماد على النفس والاستقلال فى اتخاذ القرار عندما يكون الموضوع حقاً مكفولاً للناس، لكل واحد منهم مثل ما للآخر، ويكون تدخل أحدهم فى شأن صاحبه عدواناً على حريته وإرادته؛ كما قال سبحانه: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (آل عمران: 159). ومن أمثلة هذا النوع المكفول لكل أحد حق اختيار الدين أو الوجه الفقهى المرضى لصاحبه وليس ما يراه الغير صواباً؛ كما قال سبحانه: «لَا إِكْرَاهَ فىِ الدِّينِ» (البقرة: 256)، وكما قال سبحانه: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فىِ ضَلَالٍ مُّبِينٍ * قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» (سبأ: 24-26)، وأخرج الإمام أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «استفت قلبك، استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك». ويتفرع على حق اختيار الدين كل ما يعد حقاً مكفولاً لعموم الناس، ومن ذلك حق الاستفتاء فى اختيار الرئيس وحق الانتخاب فى اختيار النائب البرلمانى؛ فكلاهما من الحقوق العامة التى يتساوى فيها المواطنون، فلا يؤجر فيها الإنسان إلا باجتهاده الشخصى واعتماده على قلبه مركز العبادة لله دون التبعية لمخلوق مثله، وإن كان من المحتمل أن يوافق اجتهاده اجتهاد غيره لكن يكون ذلك توافقاً لا خضوعاً. فإن رأى الإنسان الحر غيره يمارس عليه التسلط والفاشية ولو باسم الدين فى مثل تلك الحقوق العامة وجب عليه أن يدفعه باعتباره معتدياً وظالماً؛ كما قال سبحانه: «وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة: 190)، وقال سبحانه: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» (البقرة: 193). فكل الفتاوى الدينية أو الرشاوى المالية التى تدفع المواطنين إلى غير ممارسة حقوقهم العامة بإرادة حرة وسلطان مطلق على النفس هى من العدوان الواجب مقاومته ومقاتلته. الأصل الثانى: الوفاء بالعقود والعهود والشروط الاتفاقية فى اتخاذ القرار عندما يكون الموضوع عقداً أو عهداً بين الناس، كما لو ارتبطوا أو بعضهم باتفاق بينهم، فيما تعارفوا عليه من عقود أو عهود؛ فلا يجوز لأحد المتعاقدين أو المتعاهدين أن يخون صاحبه بالنكوث عن التزاماته أو بعضها دون موافقة الآخرين؛ كما قال سبحانه: «لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ» (الأنفال: 27). فإن كان العقد ثنائياً كما فى عقد البيع لم يكن لأحدهما مخالفة صاحبه إلا بإذنه، وإن كان العهد جماعياً كما فى عقد البيعة للدستور فيما يعرف بالعقد الاجتماعى بين المواطنين لم يكن للبعض أن يخالفه دون إذن أو تراضى الآخرين؛ كما قال سبحانه: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (المائدة: 1)، وقال سبحانه: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا» (الإسراء: 34). وأخرج البخارى تعليقاً أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «المسلمون عند شروطهم». ويترتب على هذا الأصل أن تكون الدعوة أو الحشد العام فى الخطاب الإنسانى -سواء كان دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً- متوجهاً إلى الالتزام بالعقود والعهود والشروط الاتفاقية، كما يجب تجريم كل خطاب يستعدى أحد المتعاقدين أو المتعاهدين على أصحابه، أو يدفعه إلى خيانتهم؛ لقوله تعالى: «وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ» (الأنفال: 58). وعندما نجد ملايين الشعب المصرى الأصيلة تنهمر إلى صناديق الاقتراع الرئاسى يومى الاثنين والثلاثاء 25 و26 مايو 2014، مهتديةً بهدى الله فى هذين الأصلين الشرعيين (التوكل على الله فى أمر النفس، والوفاء بالعقود والعهود فى أمر الناس) دون التأثر بالفاشية الدينية التى تشارك الله تعالى فى حكمه بالفتاوى المفصلة، أو التأثر بالفاشية المالية التى تشترى ذمم الضعفاء بالرشاوى النقدية، فإن الواجب فى الخطاب العام أن يرفع الشكر إلى أصحابه الذين نصروا هذين الأصلين الشرعيين فتوكلوا على الله وصدقوا قلوبهم واحترموا عقولهم باتخاذ قرار المشاركة الانتخابية وفاءً لعهدهم بالدستور الذى أقروه فى يناير الماضى، ورأوا أن الخذلان خيانة، وأن تبعية فاشية الرشاوى المالية من الإهانة، كما أن تبعية فاشية الفتاوى الدينية من الشرك. فماذا يعنى إعلان المتحدث الرسمى باسم الجبهة السلفية (كما جاء فى «اليوم السابع» الأحد 25 مايو 2014) أن الجبهة ملتزمة بالفتاوى الصادرة عن 160 عالماً وداعية إسلامياً بمقاطعة الانتخابات الرئاسية، إلا أن يكون هؤلاء الذين سموا أنفسهم علماء المسلمين توهموا أنهم وكلاء الله فى الأرض، أو أنهم أوصياء على دين الله فى الناس، أو أنهم يعلمون الغيب بصواب خواطرهم البشرية، ولم يتعظوا بقول الله عن سيد الخلق: «قُلْ لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأعراف: 188). إن شكر من التزم بأصول التعامل فى شرع الله القائم على التوكل على الله فى اتخاذ القرار المفوض لكل أحد استقلالاً، والالتزام بالوفاء بالعقود والعهود من غير خيانة هو من شكرنا لله سبحانه؛ لما أخرجه أحمد والترمذى وصححه، كما صححه الألبانى، عن أبى هريرة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل». وأخرجه أحمد وأبوداود بإسناد صحيح عن أبى هريرة، بلفظ: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس». وعلى المصريين الأصلاء المشكورين أن يعلموا أن معركتهم فى استمرار أصالتهم وسيادتهم لن تنتهى؛ لأنهم محسودون على استرداد حريتهم وسلطانهم على أنفسهم كما قال سبحانه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ» (النساء: 54). والحاسد لا يترك محسوده يهنأ بنعمة الله عليه، بل يعمد إلى ملاحقته لإطفاء فرحته حيث أمكنه. فإذا كان المصريون قد حسموا معركة الرئاسة فعليهم أن يحرسوها لاختيارهم الحر، ولا يمكنوا الحاسدين من سرقة فرحتهم كما سرقوها من قبل فى ثورتهم على الفساد يوم الخامس والعشرين من يناير 2011، وأصحاب السوابق فى السرقة محترفون فى ابتكار أدوات الخداع لفريستهم التى يحتقرونها؛ كما قال سبحانه: «لَا يَرْقُبُونَ فىِ مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» (التوبة: 10). ومن أدوات حفظ نعمة حسم معركة الرئاسة فى مصر مساعدة الرئيس على النجاح فى مهمته؛ فالدولة كل لا يتجزأ، هى الشعب وهى الرئيس وهى الحكومة وهى المؤسسات، ونجاح الرئيس هو نجاح الشعب ومؤسساته، وليس الرئيس إلا العمود الفقرى الذى اختاره الشعب لينتظم حوله فى منظومة التراحم والتعاون كما قال سبحانه: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ» (المائدة: 2)، وكما ورد فى الحديث الذى أخرجه البخارى ومسلم عن النعمان بن بشير أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى». ولعل من أهم وأخطر أدوات حفظ نعمة الرئاسة فى مصر ما يجب الترتيب له من الآن فى انتقاء أعضاء مجلس النواب الذين يملكون بحكم الدستور ثلثى حكم مصر، فهل يبادر القانونيون والمفكرون المخلصون بوضع ضوابط الترشح لمجلس النواب بما يحمى مصر من الفاشية الدينية أو الفساد المالى؟ وهل سينتبه الشعب إلى الخبثاء الذين يختبئون فى المزايدة بحب الدين والوطن وما هم إلا متاجرون بالدين والوطن؟ إن الأمل معقود فى إيماننا بالله الصادق وليس الظاهر؛ وصدق الله حيث يقول: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد: 11)، ويقول سبحانه: «مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا» (فاطر: 2).