فى المصطلح الشعبى المصرى هو الشخص الذى يستطيع أن ينجز، تتعقد المشكلات فيقول لك «ليها حل»، ويجد الحل وينفذه. مهارات الإدارجى متعددة، فهو أولاً يحلل المشكلة إلى عناصرها، فالمشكلات العويصة تتكون عادة من عدد من المشكلات المتشابكة، يقوم الإدارجى بتمييز كل مشكلة منها عن الأخرى، ثم يقوم بترتيب المشكلات مرتين، مرة من حيث الأهمية، ومرة ثانية من حيث سهولة الحل، ثم يقوم ثالثاً بالبدء بحل المشكلات السهلة، ويحول المكاسب المتحققة من حلها إلى موارد يستعين بها على حل المشكلات العويصة صعبة الحل. الإدارجى لديه خطة ولديه منهج عمل، الخطة تحدد المشكلات وترتبها وتختار كيفية مواجهتها. منهج العمل هو القدرة الشخصية للإدارجى على الانتقال من مشكلة إلى أخرى ومن مرحلة إلى التى تليها مستغلاً قوة الدفع والطاقة الإيجابية التى تتحقق فى المراحل المبكرة والأكثر سهولة. الإدراجى قائد لديه رؤية وليس مجرد حلال للمشاكل أو سياسى يلعب بالبيضة والحجر. لدى الإدارجى تصور ذهنى لمسار طويل متعدد المراحل، يرى آخره وهو ما زال فى أوله. المشكلات عديدة ومعقدة، وأمور المجتمعات والسياسة والثقافة لا تسير وفقاً لخط رسم بمسطرة. الإدارجى لديه تصور تقريبى للطريق، ولديه من المرونة والقدرة ما يسمح له بتعديل المسار وفقاً للظروف، دون أن ينسى أبداً المحطة النهائية التى يريد الوصول لها. تحديث مصر هو الهدف المراوغ الذى راود الإدارجية من بناة مصر الحديثة لأكثر من قرنين من الزمان. حاول محمد على فوضع أساساً قوياً، وحاول جمال عبدالناصر فأضاف لبنات للبناء، لكن مصر الحديثة ما زالت هدفاً وحلماً مراوغاً، نقترب منه، ثم ننشغل عنه حين نظن أننا امتلكناه، فيهرب منا، ونظل نحلم به حتى تحين فرصة جديدة. فشلت محاولاتنا للإمساك بحلم الدولة الحديثة مرة بسبب المغامرات الخارجية، ومرة بسبب المغامرات الخارجية المختلطة بتحيزات الإيديولوجيا. وصل محمد على بجيش مصر لمشارف عاصمة السلطنة العثمانية، فاستفز ضده قوى أوروبية لم ترتح لهذا القادم من مصر مبشراً بنهضة الشرق، فكان الانكسار. شىء شبيه حدث مع «ناصر» الذى تداخلت عنده الطموحات الخارجية مع الأيديولوجيا الاشتراكية، فكانت الهزيمة فى الخارج فى 1967، وكانت الأزمة فى الداخل بعد أن عجزت الدولة الاشتراكية عن الوفاء بوعود وضعتها على كاهلها طواعية. بعد محمد على واصلت مصر تقدمها نحو هدف الدولة الحديثة بقوة الدفع التى خلقها المؤسس الأول، لكن بحلول منتصف القرن العشرين كانت قوة الدفع توشك على الانتهاء، وكانت مصر فى حاجة إلى قوة دفع جديدة تحملها نحو الدولة الحديثة، فكان «ناصر» وتجربته الفريدة. فى السنوات الثلاث التالية لسقوط مبارك جربت مصر التقدم على طريق الدولة الحديثة بطريق التعددية والديمقراطية، فكان الصراع والانقسام والمؤامرات حتى وصلنا إلى الثلاثين من يونيو وما تلاه. ما زالت مصر تلاحق حلم الدولة الحديثة، وما زالت تحلم بإدارجى يتعلم من أخطاء سابقيه. ميراث الإدارجية العظام لا يقتصر على المصريين منهم، ففى العالم من هو أعظم من محمد على وناصر. هناك المحامى «لى كوان يو» فى سنغافورة، الذى حول الجزيرة الصغيرة التى لا تزيد مساحتها على 140 كم والتى لا تنتج برميل نفط واحداً، إلى واحد من أعظم الاقتصادات فى العالم. وهناك الجنرال «بارك تشونج هى» فى كوريا الجنوبية، الذى استطاع خلال الثمانى عشرة سنة التى حكم فيها البلاد أن ينقل بلداً كان أفقر بكثير من جارته الشيوعية فى الشمال ليصبح الاقتصاد رقم 15 بين اقتصادات العالم. وهناك الطبيب «مهاتير محمد» فى ماليزيا، الذى وصل إلى الحكم فى نفس العام الذى وصل فيه مبارك إلى الحكم، فكانت ماليزيا قبل أن يغادر الحكم فى عام 2003 واحدة من أكبر قصص النجاح فى العالم، وهناك «دينج زياوبنج» المناضل الشيوعى الذى تحولت الصين بفضل سياساته الرأسمالية إلى ثانى أكبر قوة عالمية فى الاقتصاد ومجالات كثيرة أخرى، وما زالت الصين تتقدم بثبات نحو مصاف القوى العظمى. لم يحمل أى من هؤلاء الإدارجية العظام أيديولوجية محددة، وإنما كانوا براجماتيين يتحمسون لأى فكرة يظنونها كفيلة بتحقيق حلم الدولة الحديثة، ولعل أبلغ تعبير عن ذلك ما قاله «دينج زياوبنج» عندما اتهموا إصلاحاته بالرأسمالية، فرد قائلاً «ليس من المهم أن يكون القط أبيض أو أسود، وإنما المهم أن يصطاد الفئران». وهذه بالضبط هى عقلية الإدارجية العظام وفلسفتهم فى الحياة. الوطنية هى العقيدة الوحيدة التى ألهمت كبار البنائين والإدارجية. إنها العقيدة التى تستحوذ على خيال المرء وروحه، فلا تجعل له من هدف سوى الارتقاء بالأمة ليبنى لها مستقبلاً حتى لو لم يكن لها تاريخ، فما بالك ببلد كمصر له تاريخ عريق وينتظر من أبنائه أن يمنحوه مستقبلاً يليق بهذا التاريخ. سنغافورةوكوريا الجنوبيةوماليزياوالصين، أربعة نماذج من النجاح المؤكد، بعضها أصبح ديمقراطية كاملة بعد سنوات من الحكم العسكرى مثل كوريا الجنوبية، وبعضها ما زال يحكمه حزب واحد يحمل اسم الحزب الشيوعى، كما هو الحال فى الصين، وبعضها يقف فى المسافة بين الديمقراطية والسلطوية، كما هو الحال فى ماليزياوسنغافورة، ولكنها جميعاً تشترك فى أنها من أنجح تجارب التنمية والتحديث فى عالم اليوم، والفضل فى هذا يرجع إلى الإدارجية العظام.