(1) لم أكن من الأصدقاء القريبين لباسم صبرى، ربما لحسن حظه، لكن بالتأكيد لسوء حظى. شاب دمث خلوق تعرفت عليه على «تويتر»، ثم التقينا مصادفة حين قابلته مع المخرج عمرو سلامة، أحد أقرب أصدقائه فى الواقع. هذا الشاب الهادئ لم يكن هدوؤه هو هدوء اللامبالى، أو الجاهل بالأمور، وإنما هدوء المنشغل، والمستغنى. لم يكن يحب الصراعات، ولم يكن فظاً غليظ القلب، ولذلك لم ينفض الناس من حوله، وإنما بكوه بعد أن مات فجأة. مات وكأن الحياة تلفظ منها الأخيار والأنقياء والصادقين والمخلصين، وتترك لنا هؤلاء المنشغلين بتصنيفنا وتخويننا وقلب حياتنا إلى جحيم. باسم صبرى شاب عادى جداً لكنك تحبه بمجرد أن تعرفه. درس العلوم السياسية، وكتب لفترة فى بوابة المصرى اليوم، وله تأملاته فى الحياة والسياسة، لكنه دفعنا جميعاً بوفاته لأن نتأمل فى الموت، وكفى بالموت واعظاً. يكتب باسم: الناس بتموت من الجوع والعطش والفقر واحنا قاعدين بنتخانق على حاجات ملهاش لازمة، ومحدش بيقترح أفكار جديدة عشان نبنى البلد دى. ويسأل باسم سؤالنا جميعاً: إذا كان الجميع قد فقدوا عقلهم، فكيف يعرف المرء أنه هو كذلك لم يفقده؟ وينصحك: «.. ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف فى منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم». ويقول بحكمة كهل فى الثمانين: أناس كثيرة ستنظر بعد عشرين عاماً إلى أنفسها وستتساءل فى ندم «كيف كنت ممتلئاً بكل هذه الكراهية والبغض والحقد تجاه غيرى من البشر». ويستعير أبيات محمود درويش: «الموت لا يوجع الموتى.. الموت يوجع الأحياء». لكنه يقر: «إن أكثر أنواع الموت إيلاماً هو موت الأمل». أصيب «باسم»، صاحب الاثنين والثلاثين عاماً بغيبوبة سكر أسقطته من شرفة منزله بالدور التاسع. شغلنى ما فكر فيه باسم أثناء سقوطه، فلم أقتنع سوى بأنه كان يبتسم، وهو يسأل نفسه: هل هناك شىء يستحق؟ فى الواقع لا شىء يستحق يا صديقى، سوى قليلين يتركوننا، ويرحلون. وأستعير من محمود درويش الذى نعشقه: «فإن أسباب الوفاة كثيرة.. من بينها وجع الحياة». فى جنة الخلد يا باسم. (2) فى يوم ما سنصبح سطراً فى كتاب.. استيتوس على فيس بوك.. تويتة على تويتر.. ابتسامة شجن على شفايف واحد بيحبنا، أو دعوة على لسان حد من عيلتنا، أو فاتحة بيقراها عيل صغير لأنه مش عارف يدعى بإيه، أو شتيمة على لسان واحد كان بيكرهنا، أو صورة ف إيد ناس اتصوروا معانا وهما مش عارفين أن ده اللى هيبقى منا، أو سيرة ف قعدة صحاب ع القهوة، أو دمعة ف عين حد بيفتكرنا ف مناسبة سعيدة لأن كان نفسه نبقى معاه، أو اسم تانى ممكن يتحذف ويتنسى ف اسم كبير لابنك أو بنتك، أو ذكرى حلوة بتفكر حد بينا، أو ريحة برفيوم سبناها ف قميص لأم تحضنه. فى يوم ما لن نعود هؤلاء المشاغبين، المشتبكين مع كل ما حولهم، المكتئبين من كل ما يحدث، المتفائلين بشىء لا يعرفونه، المندهشين من استمرار الحياة فى إثارة دهشتهم، المجروحين من أحبابهم، (المتباعين) من أصحابهم، المبعدين عن أقرب الناس لهم، الغاضبين لأن الأمور لا تسير كما يجب، الموجوعين للا سبب، المعاقبين على ذنب لم يقترفوه، والمتألمين من كل ما يصيب غيرهم.. فى يوم ما سندرك أن كل ما فات فات بسرعة ومضة، فلاش كاميرا قديمة، نفير سيارة مسرعة، غمضة عين بسبب ذرة تراب، حب عابر، بكاء طفل صغير جائع، عقرب الثوانى فى ساعة قديمة ما زالت تعمل.. فى يوم ما سنكون بعيداً، نحاسب على ما قدمنا وأخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما كان الله به أعلم منا.. فى يوم ما سنمضى ونترك شيئاً منا لآخرين قد ينسوننا بعد قليل لندرك أننا لا شىء إلا -فقط- ما نمثله لأحبابنا.. فاللهم ارزقنا أحباباً يدعون لنا وهم مبتسمون يتذكرون أننا كنا نعنى لهم شيئاً يستحق.