أذكر جيدًا كيف دخلت الجامعة بمجموع كبير؛ لأرسم أحلامًا وردية نحو مستقبل مشرق ينتظرني بعد تخرجي منها، ولكنني فوجئت بنفسي أجلس في منزلنا، ويدي على خدي، لا أجد عملًا أو أملًا في تحصيل ما تكبدته من مشاق طيلة 4 سنوات ماضية، وبعد جهد جهيد، وواساطات لا حصر لها، وسعي لا ينقطع من والدي، وكل معارفه، تمّ المراد من رب العباد، ووجدتني أدخل برجلي اليمين أحد مصالح مصر الحكومية، وأنا لا أصدق نفسي من فرط الاستياء. كان السلم متهالكًا، والموظفين أكثر عددًا من أصحاب المصالح أنفسهم، والمبنى قديمًا متعدد الأدوار، والمصعد معطلًا لا يعمل إلا بحركات "بهلوانية" من عامله الفهلوي، الذي يعطله في كثير من الأحيان؛ ليتجاذب أطراف الحديث مع هذا أو ذاك، أو ليشرب كوبًا من الشاي "إصطباحة"، ولم أصدق نفسي حينما دخلت المكتب الذي تمّ تعييني به، لأجدني بلا مقعد ليصبح حلم حياتي بعدها هو الحصول على مقعد كبقية موظفي المكتب اللذين رمينني بنظرات فضول عجيبة من أول لحظة تعارف. أما مديرة المكتب ف"لوت فمها" بغيظ، وقالت "ودي هنقعدها فين دي.. اقعدي ع السلم لو لقيتيلك مكان"، لكن القدر كان رحيمًا بي، ولأن شكلي "بنت ناس" انتشلتني إحدى الموظفات من الضياع، وأجلستني مكان موظفة غائبة؛ لإن رجلها كانت مكسورة، وعلى حد تعبير تلك الحنونة التي أجلستني قالت "عقبال رقبتها لما تتكسر هيه كمان، ونرتاح منها"، واكتشفت رغم صغر المكان، وضيقه إلا أنه كان يتسع للخلافات، والمناوشات، و"الأسافيين". ومع الأيام رزقني الله بكرسي مِلك، ونظرت حولي فرأيت عالمًا لا حدود له يشبه الغابة، الغلبة فيها للأقوى، والأكثر سلاطة لسان، فكان للسائق أهمية أكبر من أهمية موظف صاحب مؤهل عالي مثلي، فكنت كلما التقيت ب"عم فتحي" السائق رفعت يدي تحية له، فيتمتم هو بكلمات مبهمة كأي مدير عام مشغول بمهامه.. أما موظفات المكتب فكل حسب سطوته، الأعلى صوتًا هو الأكثر قوة، وأذكر الست زينب "دبلوم صنايع"، وكيف كانت تجلس بجبروت تمامًا كما لو كانت مديرة للمكتب كله، فتحكي لجارتها في المقعد المجاور عن حياتها، وحياة أولادها، وحياة عائلتها بأكملها حتى تنقسم رؤوسنا نصفين من قصصها، التي لا تنتهي دون أن يجرؤ شخص واحد منا على الاعتراض، أو حتى على إلقاء نظرة جانبية. بدأت أكره المكان كرهًا شديدًا، وهو الذي يخنق كل شيء حتى العبرات المكتومة، ولأنني مؤلفة قديمة بدأت في كتابة كل ما يخطر ببالي من قصص، وحكايات، ومؤلفات، ولي من الوقت الطويل ساعات وساعات، وعيني على بوابة المصلحة الحكومية تريد أن تتخطاها، وقلمي يكتب كل ما بداخلي بلا هوادة، وأنا أرى "الست زينب" تهتف بحرقة من أعماق قلبها، وهي تنظر إليّ قائلة "بت يا منال.. بتكتبي ايه؟.. أوعي تكوني بتكتبي قصص حياتنا"، ومع أول مجلة نشرت لي مؤلفاتي انطلقت حاملة قلمي، وأوراقي، وعمري الذي لا زال في المقتبل. أهبط سلالم المصلحة بكل فرحة خارجة من عنق الزجاجة، فأمرّ بعم فتحي السائق، وهو ينظر إليّ بازدراء "مؤهل عالي، وأكيد مش من مستواه"، وفصل المختل عقليًا، و"زينات" التي لا تترك أحدًا في حاله، و"نعمة" التي تعرج بقدمها، وفي عينيها نظرات تحدي للعالم أجمع، و"عم سيد" الذي يمسك دفاتر الحضور والانصراف، وكأنه يمسك أرواح البشر، والمريض، والمنعزل، والموهوب وقد دفن مواهبه بين جدران المصلحة، والفيلسوف، والعانس، وصاحبة العيال، ومدام "انشراح" التي لا تبتسم إلا لمن يجمعها به مصالح مشتركة، وعبرت بوابة المصلحة بلا رجعة.. أخيرًا قررت كسر قيودي، وتحرير ذاتي، فلا دفتر إمضاء في الدور الرابع، ولا 220 جنيه راتب شهري.