أسرار النجمة الكوميدية الكبيرة كانت من الأشياء التي تعتبرها حقا خالصا لها.... فهي عندما أحبت لم يقلقها أن قصة حبها أصبحت علي كل لسان في الوسط الصحفي والفني.. لكنها أصرت علي إخفاء زواجها سبعة عشرعاما كاملة (!).. وكانت حريصة للغاية علي إخفاء اسلامها, لانها لا تريد أن يتذكر الناس أنها كانت يهودية (!).. وكانت الدموع أقرب الي حياتها الخاصة من الابتسامات العديدة التي راحت توزعها علي الناس أكثر من ربع قرن بلا حساب سواء فوق خشبة المسرح أو علي شاشة السينما أو حتي في مقابالاتها مع الناس ومجامالتها لهم.!! .و رغم سوء حظها وتعاستها في الحرمان من أقرب الناس اليها من ناحية.. ومن صحتها من ناحية أخري فقد تربعت علي عرش الكوميديا في زمن العمالقة.. لقد ساءت صحتها فجأة ونقلوها للمستشفي
ماذا تقول دفاتر مستشفي السلام الدولي؟ وصلت الفنانة نجوي سالم الي المستشفي في صباح الخميس 18 مارس 1987, التحقت بإحدي الحجرات.. يرافقها قريب لها, هو الاستاذ عبد الفتاح البارودي الناقد الصحفي بجريدة الأخبار. لم تقل دفاتر المستشفي ان "البارودي" هو زوجها وليس مجرد قريب لها.!. ولم تكن هذه أول مرة.. سبق أن ذكرت دفاتر مستشفي بهمن والمقاولون العرب أن "البارودي" يرافق نجوي سالم, باعتبار أنه خالها!.. كان ضروريا ألا تكتب المستشفيات أكثر من ذلك. لأنها تنقل علي لسان نجوي بيانات "الالتحاق" بالمستشفي, وكانت نجوي حريصة علي اخفاء زواجها من عبد الفتاح البارودي لمدة سبعة عشر عاما كاملة.. تكتمت خلالها الصحف الخبر.. حتي عندما ألمح البارودي بعد وفاتها.. لم يقل عنه كل شيء!.. بقيت اسئلة.. وعلامات استفهام كثيرة.. وخواطر تنتظر من يزيح عنها الستار.. ولم يكن غير "البارودي" نفسه!
لم يمض وقت طويل حتي ذهبت اليه! مكتبه يقع بالطابق السابع بالمبني الصحفي الجديد لأخبار اليوم.. داخل حجرته المكتظة بكل أنواع المطبوعات, لا يمكن أن تشاهده كاملا.. أو حتي نصفه الأعلي.. سوف تري وجهه فقط.. ورباط العنق!!..أما باقي جسده النحيل فهو مختبيء خلف تلال من الكتب والمجلات والجرائد والنشرات, ودواوين الشعر ومجلدات الفنون المسرحية والاعداد التليفزيونية والسينمائية.. وعم "البارودي" كما نناديه في أخبار اليوم لم يغير أبدا ارتداء البنطلون "أبو حملات"! .. والكتابة بالقلم الحبر, وأمامه باستمرار "النشافه" ودواية "المداد"..و أشياء كثيرة من ماضيه يصر عليها.. مواعيد الطعام, النظام المطلق, أوقات الكتابة.. السير علي قدميه مسافات طويلة. كراهيته المطلقة للشيوعية, لكنه لا يصر علي شيء في حياته كحبه لنجوي سالم.. التي لا يصدق أنها ماتت.. حتي بعد أن ماتت !!.. ذهبت اليه حاملا الاوراق والكاسيت ووالاسئلة المحرجة !! ** كنت أسأله بسرعة.. ويجيب بتأن بالغ: ديانتها اليهودية هل ترجع الي الأم أم الأب؟ ** الاثنان هل معا.. الأب يهودي لبناني والأم يهودية يونانية.. الأب كان لديه محل اصلاح احذية, والأم ست بيت فقط! لماذا نجت الفنانة نجوي من قرار عبد الناصر بترحيل اليهود من مصر بعد نكسة 1967؟.. لماذا تم استثناؤها هي بالذات؟!.. ** ... أنا لا احب الحديث في السياسة.. ولست أكره عبد الناصر أو أي رئيس لمصر (!).. أرجو أن تعفيني من ذكر السبب المباشر.. وأكتفي بالقول بأن السبب يتصل بسمعتها الطيبة, وحبها الواضح لمصر والمصريين.. لقد كانت في مقدمة الفنانين والفنانات الذين أصروا علي احياء الحفلات الترفيهية لجنود الجبهة في حرب الاستنزاف.. ربما كانت من أكثرهم حماسًا وحرصًا وحبًا في هذه المشاركة. هل أسلمت من أجل أن تتزوجك؟ ..أذيع هنا سرا لأول مرة لم تكن تعرفه سوي نجوي فؤاد وانا وميمي شكيب ونجيب الريحاني, فلو كانت نجوي من النوع الذي تهون عليه ديانته من أجل رجل تتزوجه, أو عاطفة حب محمومة, لكانت قبلت الزواج فورا من نجيب الريحاني, الذي وسط ميمي شكيب لاقناعها بالزواج منه أكثر من مرة, وكان وقتها نجيب "بك" الريحاني من شخصيات المجتمع البارزة.. ونجوي مجرد ممثلة ناشئة.. لكن ديانة نجيب الريحاني المسيحية عاقت اتمام زواجه من حبيبته اليهودية, والتي كانت بمقدورها ان هي غيرت ديانتها أن تدخل التاريخ من باب "الريحاني" لكنها لم تفعل! اذن لقد أسلمت لتتجنب ترحيلها مع باقي اليهود من مصر؟ لا.. لقد استثنوها من قرار الترحيل قبل اسلامها بعدة سنوات.. وهي ليست ممن يضحين من أجل جنسية أو رجل بأغلي شيء تمتلكه! معني هذا انها اسلمت عن اقتناع؟!. ** مائة في المائة, بل كانت تقول أنها مسلمة منذ ولادتها.. وهي لم تدخل المعبد اليهودي يوما واحدا في حياتها.. بل لم تزره ابدا.. وكانت تردد انها لا تعرف حتي مكانه في القاهرة(!).. وان كانت لا تشعر بأية كراهية أو عداء أو حقد علي أي دين من الأديان السماوية التي انزلها الله.. وقبل ان تشهر إسلامها اعتادت أن تذبح عجلا في الليلة الختامية لمولد السيدة زينب ثم توزع لحومه علي الفقراء, وأحيانا تذهب الي بعض الأديرة المسيحية المشهورة.. أو تضييء شمعة في احدي الكنائس, حتي اختارت الاسلام دينا تعتقنه وتتقرب به الي الله.. وآخر يوم في عمرها؟ ** يكفي أن أقول شيئا واحدا.. بينما كنا ننقلها من شقتنا بالزمالك الي مستشفي السلام الدولي.. أصرت أن تحمل أمتعتها.. مصحفا كان لا يفارقها الي جوار سريرها بحجرة نومها بالمنزل, وبقي هذا المصحف الي جوار رأسها حتي أسلمت الروح, وكأنها توسطه بينها وبين الله شفاعة لها ليسامحها ويغفر لها.! كيف تم الزواج؟! وهل كان عرفيا أم رسميا؟ ** كان عرفيا بالطبع.. لأنها أرادت له السرية. ذات مساء في عام 1970 فوجئت بها تسألني عن رأيي في الزواج منها.. بعد أن تكرر تأخيري لديها بشقتها بالزمالك أثناء مرضها الأول.. واكتئابها النفسي بعد موت أمها, ونزولها بمستشفي بهمن للأمراض النفسية(!).. أرادت أيضا الأ تشعرني بالغربة اذا ما تأخر بي الوقت.. واستدعي مبيتي بمنزلها.. وكانت كلماتها وهي تحدثني عن الزواج هي أجمل كلمات حالمة سمعتها في حياتي! من الوزير اللامع الذي شهد علي عقد زواجكما؟ ** لا داعي لذكر اسمه!! هل لأنه مازال لامعا؟ ** لا لأني لم استأذنه في ذلك!! هل أخذت نجوميتها من بعض حقوقك كزوج؟ ** اطلاقا.. كانت تجهز لي الطعام في مواعيد دقيقة, ولم أجد يوما من صنوف الطعام صنفا لا أشتهيه.. رغم أنها كانت شديدة الولع بالفول المدمس فلم تكن تحرص علي توفيره بالمنزل قدر حرصها علي ألا تخلو الثلاجة يوميا من "صينيه الكنافة" التي أعشقها.. وبالطريقة التي أفضل أن تطهي بها.. تختار لي ملابسي بعناية فائقة.. اذا سافرت للخارج تحرص علي شراء "دستتين" من ذوقها.. باختصار, لم تقل نجوي سالم الزوجة عن نجوي سالم الفنانة عن نجوي سالم الحبيبة.. امرأة من طراز فريد قلما أن تتكرر!
كيف كانت آخر ساعات عمرها؟ ** لم نكن نتوقع الموت حتي وصلت الي المستشفي صباح الخميس 18 مارس 1987.. وهناك همس لي الأطباء سرا بأن الأربع والعشرين ساعة القادمة في منتهي الحرج في حياة نجوي سالم, التي لم تكن تعرف شيئا عما يدور حولها... الابتسامة مازالت تعلو وجهها.. دعاؤها الي الله بأن يشفيها لا ينقطع.. وفي المساء طلبت مني أن أذهب لشراء "سندوتشات فول" لتناول العشاء. وحينما هممت بالانصراف.. قالت لي في نبرة حنينة.. أن الوقت لن يسعفني في الذهاب والعودة قبل انتهاء موعد الزيارة بالمستشفي (!).. وأصرت علي بقائي الي جوارها في تلك اللحظات!!.. واكتفت بعشاء المستشفي المكون من قطع اللحوم المشوية.. أخذت قطعة واحدة.. قسمته نصفين, أخذت نصفها.. وأصرت أن أشاركها بالنصف الآخر(!). ورغم انتهاء موعد الزيارة بالمستشفي أحسست بثقل قدمي.. شيء ما ربطني بالمقعد وربط المقعد بالأرض.. لولا أن نجوي أصرت علي أن أعود الي شقتنا لأستريح.. علي أن نكمل حوارنا في الصباح!!
وتدمع عينا "البارودي" ويقاوم دموعه بصعوبة .. ويتحشرج صوته وهو يطلب مني ألا أكتب ما حدث له في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل!! لأن أحدا لن يصدقه.. وعدته.. وضعفت أمام رغبتي في سرد ما حدث للبارودي للقاريء الذي يشغله دائما مالا تنشره الصحف !!. قال البارودي: ... ((( لم يغمض لي جفن منذ وصولي الشقة التي أعيش فيها مع نجوي.. في تمام الواحدة صباحا أفزعني صوت يأتي من حجرة نومنا كانت نجوي سالم تناديني بصوت عال.. "أستاذ بارودي.. أستاذ بارودي".. أقسم انه لم يكن تخيلا. لقد سمعت نداءها ثلاث مرات حتي قمت الي مصدر الصوت.. وفتحت الحجرة, فوجدتها خالية..و في اليوم التالي.. علمت أن نجوي سالم توفيت في تمام الواحدة فجرا. في نفس اللحظة التي سمعت فيها صوتها يناديني من حجرة النوم.. أنا لا أعرف تفسير ذلك.. لكني أعرف جيدا أنه قد حدث!! كيف تلقيت نبأ وفاتها؟ ** في الصباح ذهبت الي مكتبي بأخبار اليوم.. لأكتب مقالي الاسبوعي كالمعتاد كل جمعة.. وسألني عنها الأستاذ محمد تبارك, وبمجرد انتهاء حديثي معه عن نجوي.. رفعت سماعة التليفون وقبل أن ادير رقم المستشفي.. أخبرني موظف السويتش بأن المستشفي يطلبني منذ خمس دقائق.. وكانت المفاجأة... أخبرني أحد الأطباء في التليفون أن نجوي قد ماتت....!!! دارت بي الدنيا.. كدت أهوي من فوق مقعدي. صدري ضاق.. قلبي كاد يقفز الي خارجه.. نبضي يكاد يتوقف.. كأنني شللت.. نصحني الأطباء بألا أذهب للمستشفي أو أري نجوي بعد أن أصبحت جثمانا.. أصروا علي أن أهيم في الشوارع سيرا علي الأقدام.. أفكر في أي شيء, عدا نجوي سالم, لأن قلبي لن يتحمل!.. ودون أن ادري أمسكت بقلمي لاكتب رثاءً لنجوي لم أعد قراءته قبل أن ينشره الأستاذ تبارك! ** وتحمر عيناه, ويلمع بريق حاد في نظرته, وأري "البارودي" يتحدث بصعوبة- لأول مرة: "لولا بعض اعبائي الأسرية تجاه أشقائي. ولولا ايماني بالله. لسألت نفسي.."لماذا أعيش؟". نعم.. لا اعرف لماذا أعيش بعد نجوي؟ كيف؟ عزائي الوحيد أن اذكرها .. مازالت حية.. مازلت أنظر الي تليفوني انتظر مكالمة منها.. قد تأتيني في أي وقت!! *** ** طلبت من الأستاذ عبد الفتاح البارودي معرفة ما كتبه في احدي الورقات وتردد في نشره.. ورأي أن يحتفظ بها.. وأجاب طلبي : نجوي.. نجوي.. نجوي أنا الذي أكتب للناس كل يوم عاجز عن أن أكتب قصتنا.. كانت 17 سنه كلها حب مني ووفاء منك يانجوي .. ومازلنا نعيش حياتنا.. أنت في مثواك تعيشين في ضوء ابتسامتك المستمرة, وأنا في دنياي أعيش في ظلام.. فكيف أعبر عن وجودنا بالكلمات.. أي كلمات؟!.. هل أقول للناس ان ذكراك لا يعبر عنها غير الصمت؟. وغروبك عن حياتي لا يعبر عنه غير الألم؟!.. عبد الفتاح البارودي يمنحني البارودي الورقه كاملة.. وهو يهمس لي في حنو: ... ((( لقد جعلتني في قمة معنوياتي الآن بعد كل هذا الحديث عن نجوي. خذ الورقة, وان كانت كل كلمات القاموس العربي لا تفي نجوي حقها.. رحمها الله!!