فى عصر تمت فيه تجربة معظم الحلول، وتم فيه أيضاً إثبات فشلها، يقدم المجتمع المدنى نفسه كآلية لم يتم تجريبها بشكل شامل، وليس المقصود هنا المجتمع المدنى الموجود بالفعل، بما فيه من سلبية وارتزاق وعدم شفافية فى كثير من الأحيان، وليس المقصود به أيضاً منظمات المجتمع المدنى التى تنفذ أجندات أجنبية، ولا تلك الجمعيات التى تنتهز فرصة السيولة فتطغى على مؤسسات الدولة وتتجاوز حدودها فى العمل؛ ولا تدرك حدود طبيعة عملها فتظن نفسها هى الدولة! وليس المقصود بالمجتمع المدنى -الذى نريده- تلك الكيانات التى تستغل العمل الاجتماعى بغرض الوصول إلى السلطة. بل نقصد المجتمع المدنى كآلية عمل لمجتمع حر وتعاونى يساعد الناس دون رياء، ويعمل على حل مشاكلهم الحقيقية دون مظهرية ودون منٍّ على الناس. ويقع على المثقفين العبء الأكبر، وهو عبء لن يستطيعوا القيام به إلا إذا تخلوا عن أفكارهم غير القابلة للتنفيذ. فحلول مشاكلنا ليست فى الصالونات الثقافية وإنما فى العمل بين الناس ومعهم. ومع مرور أكثر من مائتى عام على الفكر العربى الحديث، لا يزال معظم المثقفين يتحدثون عن خيارات الماضى غافلين عن خيارات المستقبل، بينما نفر آخر يعيش حالة من الاغتراب عن الذات والوطن ويريد أن يماهى بيننا وبين الغرب ضارباً بالسياق الاجتماعى والتاريخى عرض الحائط. وفى الوقت الذى لا يزال فيه العالم الثالث يترنح بين الاختيارات العتيقة من ناحية والاختيارات الزائفة من ناحية أخرى، تشتد الحاجة إلى شق طريق جديد يتجاوب مع روح العصر، ويجابه بشكل عملى أزمات المجتمع ومتغيرات ما بعد ثورة يناير. ولا يزال البعض منا مشدوداً إلى تقاليد فكرية بالية، ومشغولاً نظرياً بإشكاليات خارج التاريخ، وتحديات قديمة لم تعد موجودة، فى حين أن البعض الآخر يريد أن يعيش فى ثياب آخرين، بينما البعض الثالث يواجه أعداء وهميين ويترك الأعداء الحقيقيين، ويدخل فى معارك وهمية لن ينهزم فيها إلا الوطن. ولذا لا بد من التفكير العملى فى تأسيس طريق جديد للإصلاح السياسى والتنمية المستدامة. إن هذه الخطوة ضرورية، لكنها غير كافية، لأن أحد أهم مشاكلنا أننا لا نريد أن نعمل، بل نريد فقط أن نتعارك! ومن ثم؛ ما قيمة الأفكار الخلاقة مع أناس يحبون الشجار ويرتعون فى السلبية، ويدخل الإهمال فى بنيتهم النفسية؟! إن الناس غالباً ينتظرون الحل من أعلى (= الحاكم) أو من الخارج (= دول أخرى)، بينما فلسفة التاريخ تقول لنا إن الحل لا يأتى إلا من أسفل ومن الداخل، أى من المجتمع المدنى، أى من الناس.. «إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد: 11). ولذا فالإصلاح لن يتحقق إلا بعلاج المجتمع المدنى من أمراضه العديدة: الفساد، الرياء، الارتزاق، العمالة، المعارك الوهمية، تجاوز الدور المنوط به... إلخ. ولا يمكن أن يحدث هذا العلاج دون أن تستعيد الدولة دورها وهيبتها، ودون أن يقوم القضاء بدوره فى إعمال القانون، ودون أن تتم إعادة تدريب الأجهزة المنوط بها الحفاظ على النظام العام؛ فلا قضاء على حالة السيولة دون أن يعرف كل طرف حدوده وطبيعة دوره، وإذا لم يكن طريق الإقناع مؤدياً للغرض، فإن قوة القانون كفيلة بالخروج من حالة السيولة التى تكاد تهلك مصر. وأكاد ألمح السفينة باقية بصعوبة على سطح الماء تصارع الأمواج وتتقاذفها العواصف، وأكاد أراها موشكة على مغادرة السطح إذا لم يدركها القبطان، وهذا القبطان لن ينجح دون الناس، ودون المجتمع المدنى. وتعميق الديمقراطية ليس معناه الفوضى، وحقوق الإنسان ليس معناها ترك الموتورين يثقبون جدار السفينة. إن حياة الوطن هى الأولوية القصوى، والحيلولة دون غرق السفينة مقدم على أى مطلب آخر. ومن أسف فإن الفكر السياسى العربى كان فى مصر يسير غالباً من الدولة إلى المجتمع المدنى، وكأن الدولة هى الأصل والمجتمع هو الفرع! وبعد ثورة 25 يناير انقلبت المعادلة إلى النقيض بجعل المجتمع المدنى هو المهيمن، ونقله من الهوامش إلى سدة النظام. ومن ثم انتقلنا من نقيض إلى نقيض؛ فكانت النتيجة كما ترى. والأمل فى الله ثم فى العقلاء أن تتزن المعادلة، ويصبح التوازن هو سمة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدنى دون طغيان طرف على طرف. وهذا ما تقفز عليه مغالطات الأنظمة الشمولية المتطرفة، ومغالطات الأنظمة الليبرالية الجذرية. وهنا يكمن التطرف سواء كان جهة اليسار أو جهة اليمين. وهذا هو سر أزمتنا قبل ثورة 25 يناير حيث طغيان الدولة، وسر أزمتنا بعدها حيث طغيان المجتمع المدنى. فإذا كان التطرف فى تأكيد الهيمنة المطلقة للدولة قد أثبت فشله، فكذلك التطرف فى المناداة بتلاشى سلطتها قد أثبت فشله. وعلى قدر عدم منطقية الهيمنة الشاملة للدولة على المجتمع المدنى؛ يكون فى المقابل من الخطورة البالغة ترك «السوق السياسية والمجتمعية» تعمل بفوضوية كاملة دون رقيب ودون حدود! أفيقوا يرحمكم الله..