إن المشهد السياسى الذى يترنح بمصر بين طرفى البندول.. أقصى اليمين وأقصى اليسار.. منذ 25 يناير، مشهد سيريالى تسبب فيه نفر من كل طائفة لا يريدون إلا النصر على جثة الوطن؛ فالوطن ليس انتماء وولاء وإخلاصا، بل مجرد «مكان» أو «جبهة» للتحارب، وأصبح مثل الملعب الذى يلعب فيه فريقان فينتصر فريق؛ فلا يحترم الفريق المهزوم قواعد النصر والهزيمة، فيقوم هو وجماهيره بإفساد المباراة.. بالله عليك قل لى: ما الفرق الآن بين ما يحدث فى مباريات كرة القدم فى مصر، وبين ما يحدث فى ساحة السياسة؟! ولا يدرى المصرى الحائر بين الكبت والفوضى، أنه إذا ظل على هذا الوضع المستمر من التأرجح بين الطرفين: إما السلطة وإما الهلاك، فإن جميع من فى السفينة قادم لا محالة على ضرر بالغ لن يطال فقط فريقا دون فريق، بل سيطال المعارض والمؤيد، سيطال من يريدون أن يحدثوا ثقبا فى جدار الوطن وسيطال من يتهاون فى الدفاع عن الجدار، وهذا قانون إلهى حدده قوله تعالى: «وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً»، فالفتنة ستشمل الجميع. وَلذا (الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ). وهذا ما فسره حديث النبى صلى الله عليه وآله وسلم: «مَثَل القائم على حدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فى البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها يخرجون فيستقون الماء، ويشقون على الذين فى أعلاها، فقال الذين فى أعلاها: لا ندعكم تمرون علينا فتؤذونا. فقال الذين فى أسفلها: إن منعتمونا فتحنا باباً من أسفلها. فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم هلكوا جميعاً». إن هذا الحديث بهذه الرواية للبزار فى مسنده تلخص لنا الحالة المصرية الآن: فريق فى الأعلى يؤذيه فريق فى الأسفل، فيمنعهم؛ فيقوم الفريق الأخير بمحاولة ثقب السفينة ولا يدرك أن هذا سيهلك الجميع! وإن شاء البعض مثلا آخر، إن مصر الآن مثل الحبل الذى يشده فريقان، وإذا ظل الأمر سجالا -دون أن يتدخل الطرف المشاهد لحسم المباراة- فسينقطع الحبل، ويسقط الجميع! والسؤال: من هو الطرف المشاهد وفى الوقت نفسه الغائب عن القيام بدوره الواجب؟ إنه المجتمع المدنى الذى غاب عن دوره المنشود فى إنقاذ الوطن، ففى وسط هذا المشهد العبثى نجد المجتمع المدنى ضالا الطريق؛ فهو إما منعزل فى ممارسة دوره الخيرى، أو منخرط فى الانحياز لفصيل سياسى ضد فصيل سياسى، أو مشغول بالارتزاق من الخارج لكى يحقق الأجندة الأجنبية فى إدخال مصر فى دوامة من التعارك اللامنتهى، أو يوظف العمل الاجتماعى فى «البيزنس الخاص»، أو منشغل بتحقيق أكبر استفادة ممكنة من حالة السيولة المميتة.. ولا تخرج هيئات هذا المجتمع وجمعياته ومؤسساته ونقاباته ونواديه عن حالة من هذه الحالات، ولا يخرج منها المثقفون الأشاوس الذين لا يجيدون العمل إلا فى الصالونات الثقافية أو المقاهى المكيفة؛ أما العمل بين الناس ومعهم فليس على أجندتهم: إما عجزا، وإما طلبا للرفاهية الخاصة، وإما تحليقا فى عوالم من الوهم الفكرى والمشاريع النظرية غير القابلة للتنفيذ. وهذه حالة ستودى بالجميع ولا تقل خطورة عن الحرب الأهلية المسلحة. وسؤال الأسئلة هنا: أين دور المجتمع المدنى منذ ثورة يناير؟ ولماذا لا يقوم بدوره فى عملية الانتقال الديمقراطى؟ ولماذا لا ينتقل من مجرد دور خيرى إلى دور توعوى يعلم الناس أصول ممارسة الديمقراطية والمساهمة الفعالة فى إعادة بناء الدولة؟ وأين دور المثقفين فى كل هذا؟ إن المجتمع المدنى يقدم روابط جماعية تستطيع أن تحقق الكثير للمجتمع العام، بل وتحقق ما لا تستطيع أن تحققه أى حكومة فى القضاء على النزعات الفردية الأنانية غير المستنيرة، ويؤكد الأمريكى روبرت وثنو Robert Wuthnow عالم الاجتماع الدينى فى كتابه (مشاركة الرحلة Sharing the journey) معنى قريبا من هذا عندما قال فى سياق آخر غير سياقنا: «تقوم الجماعات الصغيرة بدور يفوق إلى حد كبير ما يعتقده كثير من المنتقدين لها؛ لأن الروابط التى تنشئها ليست ضعيفة على الإطلاق؛ حيث يستشعر الناس فيها وجود من يتولاهم بالرعاية؛ حيث إن كلا منهم يساعد الآخر.. وتكشف العلاقات التى توجد بين أعضاء الجماعات الصغيرة، عن كوننا لسنا مجتمعا من مجموعة من الأفراد المنعزلين الذى يطمع كل واحد منهم فى النجاة بنفسه فقط». ومأساتنا مرة أخرى نستطيع أن نجدها فى عدم عملنا بحديث النبى الذى يعلمه الجميع، وأيضاً عدم إدراكنا لعنوان كتاب روبرت وثنو (مشاركة الرحلة) وعدم فهمنا للعبارة الأخيرة لهذا العالم الأجنبى.. «مجتمع من مجموعة من الأفراد المنعزلين الذىن يطمع كل واحد منهم فى النجاة بنفسه فقط»، ويمكن أن نتوسع فى الفهم ونضيف إليها «الفصائل المنعزلة التى تطمع فى النجاة بنفسها فقط، أو فى حالتنا المتطرفة ليست النجاة هى المطلب الوحيد بل اقتناص أكبر قدر من الغنيمة (مصر)»! وما قاله هذا العالم الأجنبى «يطمع كل واحد منهم فى النجاة بنفسه (أو بفصيله) فقط» لا يخرج فى روحه العامة عن حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذى بدأنا به توصيف الحالة المصرية الآن. إذن ما الحل الذى يقدمه الإسلام الحر؟ اقرأ حديث المصطفى مرة أخرى وستجد الحل. من هنا يجب أن تبدأ الدولة والمجتمع المدنى والمثقفون، ومن هنا يجب أن يُنبه أو يتنبه من هم فى أسفل السفينة وأعلاها حتى لا تغرق بالجميع.