وسط حالة الارتباك المصاحبة لمرحلة الانتقال من الفوضى إلى الدولة التى نعبرها بإصرار، تتجه أبصارنا إلى جماعة المثقفين، والمفكرين لبلورة رؤيتهم للخروج من الارتباك، فى ضوء امتلاكهم قدرة التفكير بعقل بارد فى مواجهة موجات الانفعال المتصاعدة التى تملأ فضاء الإعلام، لتحوله إلى حالة من الصخب وتختلط فيها صراعات المصالح والتطلعات. ويحضرنى نموذج توفيق الحكيم ودوره، وقد أصدر روايته الأشهر «عودة الروح» 1933، والتى كانت فارقة فى بعث الروح المصرية، واعتبرها «عبدالناصر» من مكونات رؤيته الوطنية التى تبلورت فى ثورة 1952، وفى 1972 يصدر الحكيم كتابه «عودة الوعى»، والذى يحمل فيه بشدة على الحقبة الناصرية، احتاج «الحكيم» إلى أربعة عقود بين استعادة الروح واستعادة الوعى، بينما استطاع الشباب المصرى خلال أقل من ثلاث سنوات أن يعيد الروح للوطن يناير 2011، ويعيد الوعى يونيو 2013. ويدفع توفيق الحكيم زمرة المثقفين، وكلهم علامات فارقة فى تشكيل الثقافة المصرية، لإصدار بيان يؤيد حركة طلاب الجامعة وقتها، بعد أن استغرقتهم حالة الضباب التى غشيت المشهد السياسى، جراء عدم حسم المواجهة مع العدو بعد هزيمة 67، وتقول سطوره الأولى، نقلاً عن مقال لسناء البيسى: نحن الكتاب والأدباء الموقعين على هذا البيان، قد رأينا من واجبنا أن نعاون ونشارك، من مواقعنا فى المجتمع، مؤسسات الدولة فى تقصى الحقائق فى حالة الاضطراب التى بدت بوادرها الآن فى بعض الأحداث الجارية، بدافع شعورنا بالمسئولية التاريخية وثقتنا بشعبنا وتقديرنا لوطنية رئيس الدولة، واعتقاداً منا بأن فى استطاعته الإمساك بالزمام للسير بالبلاد فى طريق محفوف بالمخاطر، ويبدون استعدادهم، لأن يقدموا المعونة بإبراز ما استتر وتخفى مما يعتمل الآن فى باطن الأمة وضميرها، ويوضحوا أن البلد يغلى فى الباطن على نحو لم يعد يخفى على أحد، وأن كل الناس قد لا يعرفون تعليلاً لما يشعرون به من قلق واضطراب وغليان داخلى، ويفسر البيان منشأ هذا الإحساس العام بالقلق والاضطراب بعدم وضوح الطريق أمامهم، فالصيحة المرتفعة فى كل حين بكلمة المعركة، وأن الطريق هو المعركة، ويضيف: ومع الأسف تمضى الأيام، وتصبح كلمة المعركة مجرد كلمة غامضة لا حدود لها، ولا أبعاد لمعناها ولا تحليل لعناصرها، مجرد لقمة مستهلكة لكثرة مضغها، وأصبح الناس يملون هذه الكلمة التى تتردد فى الأناشيد والخطب والشعارات، حتى فقدت قوتها وفعاليتها، وصارت اللقمة الممضوغة فى الفم غصة، لا هم يستطيعون ابتلاعها ولا هم يجرؤون على لفظها، وأصبح طريق المستقبل أمامهم مرة أخرى مسدوداً وهم فى ضياع. وعندما يتحقق النصر، يبادر «الحكيم»، فيصدر بياناً بعنوان: «عبرنا الهزيمة»، ويقول: عبرنا الهزيمة بعبورنا إلى سيناء، مهما تكن نتيجة المعارك، فإن الأهم الوثبة، فيها المعنى أن مصر هى دائماً مصر، تحسبها الدنيا قد نامت، ولكن روحها لا تنام، وإذا هجعت قليلاً فإن لها هبة، ولها زمجرة، ثم قيام، وقد هبت مصر قليلاً وزمجرت، ليدرك العالم ما تستطيع أن تفعل فى لحظة من اللحظات، فلا ينخدع أحد فى هدوئها وسكونها، وكانت يدها التى بدرت منها حركة اليقظة هى جيشها المقدام بصيحة رئيسها الوطنى بالقيام، سوف تذكر مصر فى تاريخها هذه اللحظة بالشكر والفخر. تنتهى كلمات، وفعل الحكيم المؤكد لدور المفكر والكاتب الوطنى، يصيب ويخطئ، لكنه لا يتقاعس عن المشاركة حتى فى شيخوخته. فمتى يصدر كبار مفكرينا وكتابنا بياناً برؤيتهم للخروج من نفق الارتباك، وبعد أن حققنا عودة الروح وعودة الوعى ينيرون لنا الطريق، لنعبر الهزيمة التى يخطط لها أعداء الحضارة والوطن؟