وزير الصحة: هيئة الإسعاف شهدت نقلة نوعية غير مسبوقة منذ 2014    الهلال الأحمر يخلي 3 مرضى من مستشفى العودة المحاصر رغم الاحتجاز.. وإطلاق النار قرب سيارات الإسعاف    نهائي كأس ألمانيا 2025.. أرمينيا بيليفيلد يصطدم بشتوتجارت في مواجهة الحلم والتاريخ    مدير تعليم القاهرة يتابع سير امتحانات النقل بإدارة بدر    نائب رئيس الوزراء: مركز الاتصالات الجديد للإسعاف هو الأكبر في الشرق الأوسط    العُمر مجرد رقم.. آمال ابنة المنيا تحوّل القصاصيص إلى كنوز في المتحف الكبير    ممكن تترشح في أي دائرة.. وزير الشؤون النيابية يكشف تفاصيل جديدة بشأن نظام الانتخابات    مستعمرون يحرقون 40 دونمًا مزروعة بالقمح فى سبسطية قرب نابلس    رئيس وزراء أوكرانيا يدعو إلى زيادة الدعم الدولي لبلاده وتشديد العقوبات على روسيا    سيميوني: أهدرنا فرصة الفوز باللقب فى أسهل موسم    مركز الساحل والصحراء يعقد مؤتمرًا عن "الإرهاب فى غرب أفريقيا".. صور    البابا تواضروس يصلي القداس الإلهي ب كنيسة «العذراء» بأرض الجولف    هيثم فاروق: أثق في يورتشيتش وبيراميدز لن يعود للدفاع في الإياب أمام صن داونز    مغامرة كأس العالم للأندية    إصابة نجم يد الزمالك بقطع في الرباط الصليبي للركبة    تباين أداء قطاعات البورصة المصرية.. قفزات في المالية والاتصالات مقابل تراجع المقاولات والموارد الأساسية    فى حضرة قباء بالمدينة المنورة.. المصريون بين عبق التاريخ ورعاية لا تغيب "فيديو"    بدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني ب8 مدارس فنية للتمريض بالإسكندرية    تأجيل محاكمة أكبر مافيا لتزوير الشهادات الجامعية    ضباط الشرطة الفرنسية يقدمون عرضًا على السجادة الحمراء ضمن ختام «كان السينمائي»    مسلم يرد من جديد على منتقديه: كفاية بقى    لقاء سويدان: الجمهور ملهوش التدخل في حياة السقا ومها الصغير    فرقة الغنايم تقدم «طواحين الهوا» على مسرح قصر الثقافة    محمد رمضان يروج ل فيلم "أسد" بصورة جديدة من الكواليس    موعد افتتاح المتحف المصري الكبير 2025.. هل يوافق إجازة رسمية؟    عضو شعبة المواد الغذائية: «كلنا واحد» تعيد التوازن للأسواق وتدعم المستهلك    رئيس الوزراء يشارك غدا بمنتدى الأعمال المصرى - الأمريكى    تأجيل محاكمة متهمي اللجان النوعية    "ملكة جمال الكون" ديو يجمع تامر حسني والشامي    ملك المونولوج.. ذكرى رحيل إسماعيل ياسين في كاريكاتير اليوم السابع    وزير البترول يتفقد المجمع الحكومي للخدمات الذكية خلال جولته بالوادى الجديد    المانجو "الأسواني" تظهر في الأسواق.. فما موعد محصول الزبدية والعويسي؟    وزير الداخلية اللبناني: الدولة لن تستكين إلا بتحرير كل جزء من أراضيها    بيرو تفتح تحقيقاً جنائياً بحق جندي إسرائيلي بعد شكوى مؤسسة هند رجب    المرصد الأورومتوسطي: إسرائيل تصعد سياسة التهجير والتجويع تمهيدًا لطرد جماعي للفلسطينيين    تسجل 44.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس في مصر: موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد ل48 ساعة    سقوط عدد من "لصوص القاهرة" بسرقات متنوعة في قبضة الأمن | صور    النزول من الطائرة بالونش!    وزيرة التنمية المحلية تعلن انتهاء الخطة التدريبية لسقارة للعام المالي الحالي    محافظ قنا يكرم باحثة لحصولها على الدكتوراه في العلوم السياسية    سيد عطا: جاهزية جامعة حلوان الأهلية لسير الاختبارات.. صور    كونتي ضد كابيلو.. محكمة تحدد المدرب الأفضل في تاريخ الدوري الإيطالي    بمشاركة منتخب مصر.. فيفا يعلن ملاعب كأس العرب    ذا أثليتك: أموريم أبلغ جارناتشو بالبحث عن نادٍ جديد في الصيف    جرافينبيرش يتوج بجائزة أفضل لاعب شاب في الدوري الإنجليزي    النائب مصطفى سالمان: تعديلات قانون انتخابات الشيوخ خطوة لضمان عدالة التمثيل    رئيس الوزراء يفتتح المقر الرئيسي الجديد لهيئة الإسعاف    نائب وزير الصحة يبحث مع وفد منظمة الصحة العالمية واليونيسف تعزيز الحوكمة ووضع خارطة طريق مستقبلية    مباشر.. أسرة سلطان القراء الشيخ سيد سعيد تستعد لاستقبال جثمانه بالدقهلية    جامعة كفر الشيخ تسابق الزمن لإنهاء استكمال المنظومة الطبية والارتقاء بالمستشفيات الجديدة    براتب 20 ألف جنيه.. تعرف على فرص عمل للشباب في الأردن    رئيس جامعة الأزهر: القرآن الكريم مجالًا رحبًا للباحثين في التفسير    خلي بالك.. رادارات السرعة تلتقط 26 ألف مخالفة في يوم واحد    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    حكم طلاق الحائض عند المأذون؟.. أمين الفتوى يُجيب    الداخلية تضبط المسئول عن شركة لإلحاق العمالة بالخارج لقيامه بالنصب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 24-5-2025 في محافظة قنا    هل يجوز الحج عن الوالد المتوفي.. دار الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوم مولد الحكيم..
عبرنا الهزيمة
نشر في الأهرام اليومي يوم 05 - 10 - 2013

السادس من أكتوبر1973 تاريخ عبور النصر المحفور علي جبين مصر.. السادس من أكتوبر1898 تاريخ عبور آخر من الظلمات إلي النور
عندما خرج إلي الدنيا حسين توفيق إسماعيل الحكيم الذي عاش ما يقرب من تسعين عاما ورث امتدادها من أم اقتربت من المائة, ليزداد به تعداد مصر رقما جديدا يضاف إلي12 مليون نسمة يجلس علي عرشهم الخديو عباس, وهو نفس عام مولد أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب, وفي التوقيت نفسه بلغ كل من طه حسين والعقاد9 سنوات, وربما في السابع منه يحتفل أمير الشعراء أحمد شوقي بعيد ميلاده الثلاثين, بينما لم يكن عمر سيد درويش يزيد علي6 سنوات, وفي عام الحكيم كانت حملة كتشنر التي حصدت50 ألف مجند من شباب السودان, ومدت ألمانيا السكة الحديد في العراق, ووضع حجر أساس البنك الأهلي, وشيد المتحف المصري وخزان أسوان.. توفيق الحكيم ابن برج الميزان وارث الحكمة والتوازن والاتزان والاعتدال, ومن هذا الاعتدال أتي بنظريته التعادلية رمز كفتي الميزان كمذهب للحياة والفن التزم به في غالبية أعماله ليقول عنه: إني أريد أن لا تؤخذ كلمة التعادلية بمعناها اللغوي الذي يفيد التساوي أو التوسط في الأمور, وإنما أعني بها التقابل.. كل فعل له رد فعل.. كل قوة تعادلها وتقابلها قوة.
ورغم تعادلية الحكيم واعتداله وميزان برجه لموازنة الأمور, فقد جمح به ميزانه في يناير1973 ليغدو رد الفعل لديه ثورة يقودها علي رأس كتيبة المثقفين المصريين للتعبير عن موقفهم الغاضب من حالة اللاسلم واللاحرب التي تمر بها البلاد, وتأخر السادات في إعلان الحرب علي إسرائيل رغم خطابه علي مدي3 سنوات بأنه عام الحسم, مع استمرار التعبئة العامة وتجنيد شباب مصر من ذوي المؤهلات العليا والمتوسطة مما يشكل ضغطا متزايدا علي الجبهة الداخلية يوما بعد يوم, إلي جانب فقدان الدول العربية ثقتها في جدية استعداد مصر للحرب, وعدم استيعاب خطوة إنهاء السادات لمهمة المستشارين والخبراء السوفييت بينما أمريكا تعطي لإسرائيل بلا حساب وتجدد لها سلاح الطيران بالكامل وتمنحها42 طائرة فانتوم و82 طائرة سكاي هوك, ونصيحة كيسنجر له بأن يكون واقعيا متوقعا انتصار إسرائيل مرة أخري أشد مما انتصرت في عام67!
ورغم أن توفيق الحكيم كان رجلا حلو الحديث, خفيف الظل, صاحب ذهن شديد الحيوية والاشتعال والحضور, فإنه كان من الناحية الاجتماعية شديد التحفظ ميالا إلي العزلة والانطواء حتي داخل بيته, فلم يكن يلتقي بالناس إلا في مكتبه في برج الدور السادس بالأهرام, وقبلها في دار الكتب أو المجلس الأعلي للآداب والفنون أو في ندوات يعقدها كل أسبوع في فندق سميراميس القديم, أو مقهي بترو بالإسكندرية.. لم يكن الحكيم يعرف حياة اجتماعية خارج هذه الحدود فلم يكن يزور أحدا, ولم يكن يسهر أبدا أو يقبل دعوات الغداء أو العشاء, ولذلك كان إنتاجه الأدبي والفني غزيرا جدا لأنه لم يكن يعرف شيئا اسمه الوقت الضائع, ولم يكن أحد يعرف عنوان بيته إلا القليل النادر, وخلال حياته الطويلة كان يدرك خطورة اصطدامه بالسلطة, أي سلطة, ولذلك لم ينغمس في السياسة أو الحزبية, وربما دخل شرنقة التوحد تلك منذ أن كان عمره21 عاما طالبا بمدرسة الحقوق, حيث شارك في المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزي تؤججه المشاعر الوطنية لثورة19, فتم القبض عليه هو وأعمامه ليلقوا في سجن القلعة بتهمة التآمر, وحاول والده إسماعيل بك الحكيم صاحب النفوذ والثروة التي منها300 فدان من أجود أراضي البحيرة استغلال اتصالاته القوية للإفراج عنهم إلا أنه فشل ولم ينجح سوي في نقلهم بعدما ذاقوا مرارة التعذيب إلي المستشفي العسكري ليستمروا رهن الاعتقال حتي تم الإفراج عن سعد زغلول نفسه.. منذ ذلك التاريخ البعيد نجح الحكيم في النأي بنفسه عن دوائر السلطة وبطشها الذي ذاقه يوما, لكنه لم ينج من بعض اللحظات التي غضبت فيها السلطة عليه وكشرت عن أنيابها, لأنه تعدي الحدود الحمراء, وكانت زمجرة غضبها عليه عالية في عام1973 حتي كادت تطيح به, وذلك بسبب البيان العريضة التي كتبها للسادات بخط يده وقام بالتوقيع عليها كبار المثقفين والكتاب في مصر وعلي رأسهم نجيب محفوظ, ود. لويس عوض, ود. علي الراعي, وثروت أباظة.. و..لقد جاء في البيان الذي عبر عن وجهة نظر المثقفين بصراحة لا تغلفها الدبلوماسية الواجبة ما يلي:
نحن الكتاب والأدباء الموقعين علي هذا البيان قد رأينا من واجبنا أن نعاون ونشارك من مواقعنا في المجتمع مؤسسات الدولة في تقصي الحقائق في حالة الاضطراب التي بدت بوادرها الآن في بعض الأحداث الجارية, يدفعنا إلي ذلك شعورنا بالمسئولية التاريخية وثقتنا بشعبنا وتقديرنا لوطنية رئيس الدولة واعتقادا منا بأن في استطاعته الإمساك بالزمام للسير بالبلاد في طريق محفوف بالمخاطر, ويشير البيان إلي أن علي الكتاب والأدباء أن يكملوا الصورة وأن يقدموا المعونة بإبراز ما استتر وتخفي مما يعتمل الآن في باطن الأمة وضميرها, كما يوضح بصراحة أن البلد يغلي في الباطن علي نحو لم يعد يخفي علي أحد, وأن كل الناس قد لا يعرفون تعليلا لما يشعرون به من قلق واضطراب وغليان داخلي.. ويفسر البيان منشأ هذا الإحساس العام بالقلق والاضطراب والضياع بعدم وضوح الطريق أمامهم فالصيحة المرتفعة في كل حين بكلمة المعركة.. وأن الطريق هو المعركة. ويضيف البيان ومع الأسف تمضي الأيام وتصبح كلمة المعركة مجرد كلمة غامضة لا حدود لها ولا أبعاد لمعناها ولا تحليل لعناصرها, مجرد كلمة مطلقة تلوكها الأفواه, مجرد لقمة مستهلكة لكثرة مضغها, وأصبح الناس يملون هذه الكلمة التي تتردد علي جميع النغمات في الأناشيد والأغاني والخطب والشعارات حتي فقدت قوتها وفاعليتها, بل وصدقها, وصارت اللقمة الممضوغة في الفم غصة لا هم يستطيعون ابتلاعها ولا هم يجرأون علي لفظها, وأصبحوا في حيرة من شأنهم, وأصبح طريق المستقبل أمامهم مرة أخري مسدودا وهم في ضياع.. و..نتوقف عند هذه الفقرة التي نقلناها بالنص من البيان لأن كثيرا من المصادر التاريخية تشير إلي أن هذه الكلمات بالتحديد هي التي أغضبت السادات وخاصة حكاية اللقمة التي وقفت في زور الناس كما أشار أحمد بهاء الدين, وهي لا تخفي عن قراء أدب وبلاغة الحكيم وتعبيراته الساخرة التي تصل إلي الصميم حتي تكاد تتهم السادات صراحة بالخداع.. والغريب أن السادات الذي ظلموه إلي أبعد حد كان قد اقترب بالفعل في تلك الفترة الحرجة من وضع اللمسات النهائية للحرب إلا أنه كان حريصا علي السرية التامة بعد أن عاني ضغوطا شديدة في سبيل توفير السلاح, وفي تحديد هدف المعركة بما يناسب الإمكانات المتاحة, وفي الإزماع علي دخول حرب ضد عدو لديه جهاز مخابرات اشتهر بكفاءته وتعاونه مع أجهزة المخابرات الأمريكية لمعرفة كل ما يدور في الوطن العربي, وفي عبور أصعب الموانع المائية قناة السويس وقناة بنما وذلك لطبيعة المياه والعمق والعرض, إلي جانب الحائط السد لخط بارليف, والقنوات البترولية التي تعمل في دقائق فيتحول كل شبر في خط المواجهة في منطقة القناة إلي كتلة حريق قاتلة!!
البيان يتجه بعد ذلك إلي الحديث عن إحساس الشباب بالضياع, حيث يدرسون ويحصلون علي الشهادات ليقذف بهم السادات علي حد قولهم إلي رمال الجبهة لينسوا ما تعلموه ولا يجدون عدوا يقاتلونه, وقال البيان إن كل نقص وإهمال أو توقف أو عبث أصبح يختفي خلف صوت المعركة, وفي انتظار المعركة وتمحكا بالمعركة وإذا بالأمر ينقلب في نظر المواطنين إلي( مهزلة) وإلي سخط وإلي قرف عام.. ما الحل؟.. الحل كما يقول البيان في الصدق فإن الشعب يريد أن يقتنع بشيء لأنه غير مقتنع, ولابد من إراحة باله واقتناعه بعرض حقائق الموقف أمامه واضحة وهذا يقتضي النظر في تغيير بعض الإجراءات التي تسير عليها الدولة اليوم: ومنها حرية الرأي والفكر وحرية المناقشة لإلقاء الضوء علي كل شيء حتي تتضح الرؤية وليكن ذلك داخل المؤسسات إذا كانت السرية في ظروفنا الحاضرة تقتضي ذلك علي ألا يكون للدولة رأي مسبق تضغط به علي أهل الرأي وتجعلهم مجرد أبواق لترديده وترويجه.. وينتهي البيان بهذا الكلمات علي الدولة في هذه الظروف العصيبة أن تتخفف هي من كل العبء والمسئولية وتضعها علي ظهر الأمة. إن في ذلك مصلحتها وصيانة لها أمام التاريخ.. وكأن البيان يقول إنه إذا لم يكن السادات قادرا علي الرؤية فليختر من يساعده ليري.. أو ليستقيل.. وكان الحكيم بهذه الرؤية يعبر تقريبا عن آراء عشرات الكتاب والمثقفين الذين لم يكونوا علي علم بخطوات الإعداد لساعة الصفر, ويشعرون بمسئولية خاصة تجاه الوطن والشباب, كما أنهم لم يبتلعوا فكرة الضباب التي فسر بها السادات تأخر الحرب.. ويذيل تاريخ البيان الزلزال بتوقيعاته الصاخبة المدوية في الاثنين8 يناير1973, والذي كان من مضاعفاته فصل توفيق الحكيم من الاتحاد الاشتراكي مع أكثر من ستين كاتبا تشردوا بين هيئة الاستعلامات ومبني ماسبيرو وشركات القطاع العام بما فيها باتا للأحذية وهاجر البعض للخارج, وأقصت قرارات العزل والتشريد مفكرين كبار مثل الدكتور لويس عوض, وتم تعيين أحمد بهاء الدين رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال الذي رأي علي حد قوله كي يغرق في مشاكل دار الهلال المزمنة, ويبتعد عن الأثر الفعال الذي تمنحه الأهرام لكتاباته الصحفية!
و..يتم اللقاء في القناطر الخيرية بين السادات وتوفيق الحكيم بحضور الدكتور عبدالقادر حاتم ليكون محور الحوار البيان الشهير وتداعياته, فيبادر الحكيم الحديث قائلا للسادات: مادام الضباب يعوق حركتك عن الحرب فلماذا لا تستشير أهل الفكر والرأي؟ وهذا هو الهدف من العريضة أو البيان.. فيرد السادات بأنه لم يغضب إلا من الفقرة التي تتحدث عن حالة القرف التي تعيشها البلاد وإلقاء شباب الجامعات في رمال سيناء دون أن تستفيد بهم الدولة أو الجيش, وكرر السادات قوله: إن هؤلاء الشباب يتدربون علي القتال وأنه واثق في كفاءة الجندي المصري خيرة أجناد الأرض.. و..يحول السادات مسار الحديث ليشرح أهدافه للفكر والثقافة والفن, ويعرض علي الحكيم مشروع دار الأوبرا الجديدة, ولكن الحكيم أصر علي أن يطلب من السادات إعادة المضارين بسبب العريضة, وكان شرط السادات لإعادتهم أن يعتذروا عما فعلوه, فيقول الحكيم: إنهم لم يفعلوا شيئا ليعتذروا عنه, وإذا كان هناك من يتحمل المسئولية ويعتذر فإنه أنا لأنني الذي كتبت البيان, فأنا رأس البلاء بالنسبة لهم.. فيرد السادات: بل أنت رأس الحكمة!.. ويتراجع السادات عن قراره ليعيد المثقفين والكتاب إلي مواقعهم قبل الحرب بأيام.. وينتصر جيش العبور في6 أكتوبر ليكتب توفيق الحكيم كلمته التاريخية قائلا:
عبرنا الهزيمة
عبرنا الهزيمة بعبورنا إلي سيناء
مهما تكن نتيجة المعارك فإن الأهم الوثبة
فيها المعني أن مصر هي دائما مصر
تحسبها الدنيا قد نامت, ولكن روحها لا تنام
وإذا هجعت قليلا فإن لها هبة, ولها زمجرة, ثم قيام, وقد هبت مصر قليلا وزمجرت, ليدرك العالم ما تستطيع أن تفعل في لحظة من اللحظات, فلا ينخدع أحد في هدوئها وسكونها.
وكانت يدها التي بدرت منها حركة اليقظة هي جيشها المقدام بصيحة رئيسها الوطني بالقيام.. سوف تذكر مصر في تاريخها هذه اللحظة بالشكر والفخر.
توفيق الحكيم
وإذا ما كان الحكيم قد أثار غضبة السادات في يناير73 فقد فعلها من قبل مع عبدالناصر إثر هزيمة67 رغم ماضي تصريح ناصر بأن قراءته لرواية عودة الروح كان له الأثر الفعلي فيما قاده إلي التفكير حقا بأن مصر في حاجة إلي أن تعود روحها إليها, وأن هذه الروح لا يمكن أن تعود إلا بثورة جذرية.. وعندما تم إدراج اسم الحكيم في حركة التطهير في العمل الحكومي باعتباره موظفا لا يعمل وغير منتج تدخل عبدالناصر مستنكرا ما يحدث للحكيم, قائلا من لا يعرف قدر توفيق الحكيم لا يستحق أن يكون وزيرا للمعارف مما دفع الوزير إسماعيل القباني إلي تقديم استقالته فقبلها عبدالناصر.. وفي عام58 عندما تعرض الحكيم لحملة شرسة من جريدة الجمهورية يقودها رشدي صالح وجلال الدين الحمامصي اللذان اتهماه بأنه اقتبس فكرة حمار الحكيم من الكاتب الإسباني خمينيز, ودافع عبدالرحمن الشرقاوي عن الحكيم مؤكدا أن تشابه الموضوع لا يعني السرقة, والفصل يكون في التناول والمعالجة التي تميز كل كاتب عن الآخر.. وبعد تفنيد الحملة منح جمال عبدالناصر في17 ديسمبر1958 قلادة الجمهورية لتوفيق الحكيم.. كل هذا لم يمنع الحكيم من بعثه برسالة ودية حاول أن يجعلها في طي الكتمان علي قدر الإمكان حتي تؤدي الغرض منها في هدوء, وهو توصيل رأيه إلي الرئيس, وإبداء النصح إليه بمناسبة تعيين محمد حسنين هيكل وزيرا, أي نقله من مجال القلم إلي كرسي السلطة, فأراد أن يجعل من هذه المناسبة وسيلة لإفهامه بأن البلاد وهي تعاني أزمة نفسية شديدة بعد الهزيمة أصبحت لا تصدق ما يصدر عن الجهات الحكومية, لأن أزمتنا أصبحت أزمة ثقة, لكن الرسالة رغم صيغتها الودية وصراحتها المخلصة ونصحها الأمين لم تكن محل ترحيب, بل كانت موضع ضيق.. بل يقول عنها توفيق الحكيم لولا الحياء علي الأقل لكبر سني وحسن نيتي لوضعت بعدها في السجن بلا محاكمة..
وقد جاء في الرسالة التي استهلها الحكيم قائلا:
سيادة الرئيس.. سمحت لنفسي أن أكتب إليكم هذا الخطاب الخاص, لما لي من صلة قلم بجريدة الأهرام, باعتبارها المنبر الذي ينطلق منه صوت بلادنا في أرجاء الأرض.. ودفعني إلي ذلك ما علمت به من أمر تعيين محمد حسنين هيكل وزيرا للإرشاد.. ولثقتي الوطنية بسداد رأيكم فقد تقبلت الخبر بشيء من التفكير.. وجعلت أقلب الأمر علي مختلف وجوهه.. وتمهلت قليلا في قبول ما يلوكه الناس من تعليقات.. ربما كان آخرها صادرا ممن يهمهم إضعاف هذا المنبر.. وإخفات صوت يعتقد أنه منبعث من نبع القلب الوطني والقومي.. ومهما يكن من أمر فهناك حقيقة لم أستطع لها دفعا هي: أن جريدة الأهرام باستقلالها وبما فيها من أقلام حرة يثق بها الناس, قد استطاعت وتستطيع دائما أن تشيع في النفوس الثقة والأمل, وبهذا الاتجاه الذي سارت فيه في طرح الحقائق حتي المؤلم منها ثم الإيحاء مع ذلك بروح التفاؤل.. بعيدا عن أي توجيه رسمي, قد هيأها لهذه المهمة الفريدة في وقتنا الحاضر وجعل منها الأداة الفعالة في تنوير الرأي العام والتأثير فيه دون الالتجاء إلي الشعارات المفتعلة التي كرهها الناس من أجهزتنا الرسمية, وهذه الأجهزة الرسمية الإذاعية لها عذرها, ولا ينتظر منها أن تفعل أكثر مما تفعل..
وبعد هذه المقدمة التي تعد درسا في الصحافة يتطرق الحكيم إلي المعني الذي أراد توصيله إلي الرئيس عبدالناصر.. فيقول: الناس غالبا لا تصدق ما يصدر عن جهاز حكومي وهذه هي الأزمة الحقيقية يا سيادة الرئيس.. أزمتنا اليوم أزمة ثقة.. والحالة النفسية التي يمر بها شعبنا اليوم هي الحيرة والقلق وبلبلة الفكر.. وكل شعب في مثل وضعنا مر بهذه الحالة. ولكن علاجها دائما كان في وجود الثقة لأن أصواتا ومنابر حرة كان يعرف منها كل شيء بحجمه.. أما نحن فقد انفردنا بالعلة دون العلاج, لأننا اعتمدنا علي أجهزة الدعاية الرسمية وحدها.. جهاز واحد كان يرجي منه العلاج هو الأهرام الحر.. وكان الناس في مصر والعالم العربي, بل خارج البلاد ينتظرون كل جمعة مقال بصراحة ليعرفوا حقائق ما يجري من خلال أسطر لا تنتمي إلي جهة رسمية.. ولكنها تكشف عن الصدق الذي يريده الناس علي قدر الإمكان.. أتصور الآن ما يجري يا سيدي الرئيس إذا فقدت الأهرام هذه الصفة.. ما الذي سيبقي للناس؟ أبواق إذاعة وتليفزيون لا تقبل إلا أغانيها, وكل نشاط لهذه الأجهزة في مجال الرأي سيأتي بعكسه.. لأن الناس لا تريد الآن أن تصدق إلا ما يصدر بعيدا عن السلطة, صدقني يا سيادة الرئيس أن جريدة كالأهرام بأقلامها المستقلة تستطيع أن تعالج نفسية الرأي العام, بأفضل مما تستطيع وزارة من الوزارات, ولا أقولها دفاعا عن زميل, فالموقف أجل وأخطر من أن أنظر إليه من زاوية شخصية, إنما الحق الذي أراه ونحن نجتاز مرحلة حرجة من تاريخنا.. علي كل مواطن فيها أن يكون صريحا.. فاعذرني يا سيادة الرئيس إذا أقحمت نفسي وكتبت إليكم لأول مرة بما بدا لي في هذا الشأن الهام, وإني لعلي يقين دائما بحكمتكم وحبكم لبلادكم, بما تريدون لها وتعملون من أجل حريتها ونهضتها.. وتفضلوا يا سيادة الرئيس بقبول أصدق آيات التقدير والإجلال..
ويسألونه.. الحكيم.. قبل وفاته عن العروبة, فيجيب بأن الآمال في نهضة الحضارة العربية لم تزل في النفوس, لكن الدول العربية منقسمة إلي دول بعضها مشغول بمضاعفة ثرائه, وبعضها مهموم بعلاج إفلاسه, وبعضها مثخن بجروح حروبه, وبعضها ثائر لمنع ابتلاعه, وبعضها تم ابتلاعه بالفعل, ومأساة الوطن العربي في التناقض بين الأفعال والأقوال لدرجة أن الانشطار أصبح ثلاثيا.. أي أننا نفكر في شيء, ونقول شيئا آخر, ونفعل شيئا ثالثا.. و..كلنا في الهم شرق!!.. توفيق الحكيم الذي طالب في عودة الوعي بفتح الملفات ليطمئن قليه ويظهر للتاريخ أن عبدالناصر لم يكن مسئولا عن الأخطاء إلا بنسبة قليلة ولكن التاريخ يحمل الزعماء ظلما جميع المسئوليات الكبري, فنابليون مسئول عن هزيمته في واتر لو التي نفي بسببها ليموت وحده ملعونا علي أرض جزيرة نائية, وكان سبب الهزيمة أحد قواده الذي تأخر عن دخول المعركة كما خطط بونابرت.. وتلبية لنداء الحكيم فتحت الملفات لتهبط المذكرات الشخصية كالسيل المنهمر وكان أكثرها هجوما علي عبدالناصر خاصة من المشتركين معه في الأحداث التي مرت, ليصرخ الحكيم اغلقوا الملفات.. وحتي لحظتنا هذه وبعد أكثر من ربع قرن علي صرخة الحكيم في البرية لم تغلق الملفات ولا هدأت هوجة المذكرات حتي لمن خرج أو أخرج ليلة امبارح ومطرحه لم يزل ساخنا والحكم عليه لم يصدره الشعب بعد!!
وحول الكتاب عودة الوعي سأله الكاتب الكبير صلاح منتصر الذي لازمه وهو جالس علي ضفاف الموت في أيامه الأخيرة بالحجرة رقم414 بمستشفي المقاولون العرب فيما إذا كان سيكتب هذا الكتاب وعبدالناصر علي قيد الحياة؟! أجاب الحكيم: نعم, ولكنت قد طلبت منه كتابة مقدمة له.. لقد أطلعته علي رواية السلطان الحائر حول الحاكم الحائر بين السيف والقانون فأجازها, وكذلك فعلت في كتابي بنك القلق الذي وصفت فيه نظام حكمنا بأنه اشترأسمالية وقرأه عبدالناصر ولم يمانع في نشره رغم غضب معاونيه, ولقد كنت أول من اقترح إقامة تمثال له بعد وفاته في ميدان التحرير ليشرق علي الأجيال ويكون دائما رمز الآمال, وما ينبغي أن تقيم الدولة أو السلطة هذا التمثال لكنه الشعب من ماله القليل, وللآن لا أعرف مصير الخمسين جنيها التي كنت قد دفعتها فعلا للأهرام لحساب إقامة التمثال؟!.
وقد تكون لفكرة حكيم أكتوبر عظيم وجاهتها, ونبل مقصدها, وسمو هدفها, ونصاعة غايتها كي نبدأ الاكتتاب الشعبي الآن وبالفعل لعمل نصب تذكاري في ميدان التحرير لشهداء سيناء أبطال الجيش والشرطة الذين ضحوا بدمائهم الزكية للعبور بنا من ضلال الإرهاب لحياة الأمن والأمان.. لنردد من خلف قائد الجيش الثاني الميداني اللواء أركان حرب أحمد وصفي: دع سمائي فسمائي محرقة.. دع قنالي فمياهي مغرقة, واحذر الأرض فأرضي صاعقة.. واللي يقرب من حدودنا هانأدبه..
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.