جبالى يحيل 10 مشروعات قانون للجان النوعية بالبرلمان    الأحد 19 مايو 2024.. الدولار يسجل 46.97 جنيه للبيع في بداية التعاملات    وزير التعليم العالي يلتقي بوفد جامعة إكستر البريطانية لبحث وتعزيز التعاون المُشترك    أيوب: الأهلى قادر على التتويج بلقب دورى أبطال أفريقيا    أبو الدهب: الأهلي قادر على حسم التتويج في القاهرة    محافظ جنوب سيناء يطمئن على سير امتحانات الشهادة الإعدادية بمدرسة الشهيد عبدالمنعم رياض برأس سدر    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    إحالة تشكيل عصابي تخصص في سرقة إطارات وجنوط السيارات بالتجمع    التحقيق مع المتهمين بالتسبب في مصرع شاب غرقا بنهر النيل بالعياط    المشدد من 5 ل20 سنة لثمان متهمين لاستعراضهم القوة وقتل وإصابة آخرين في الاسكندرية    بهذه الكلمات.. باسم سمرة يشوق الجمهور ل فيلم "اللعب مع العيال"    إعلام روسي: هجوم أوكراني ب6 طائرات مسيرة على مصفاة للنفط في سلافيانسك في إقليم كراسنودار    جامعة القاهرة تكمل استعداداتها لبدء ماراثون امتحانات نهاية العام الجامعي لنحو 270 ألف طالب    رفع اسم محمد أبو تريكة من قوائم الإرهاب    وصول بعثة الأهلي إلى مطار القاهرة بعد مواجهة الترجي    بعثة الأهلي تعود إلى القاهرة بعد التعادل مع الترجي    صعود سعر الفراخ البيضاء الآن.. أسعار الدواجن اليوم الأحد 19-5-2024 للمستهلك (تحديث)    أسعار السلع التموينية اليوم الأحد 19-5-2024 في محافظة المنيا    «جولدمان ساكس» يتوقع خفض المركزي المصري أسعار الفائدة 150 نقطة أساس    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يجري فحوصات طبية في قصر السلام    شرطة الاحتلال الإسرائيلية تعتقل عددا من المتظاهرين المطالبين بعزل نتنياهو    موعد عيد الأضحى 2024 وجدول الإجازات الرسمية في مصر    الأمور تشتعل.. التفاصيل الكاملة للخلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي    لهذا السبب.. صابرين تتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    أخبار جيدة ل«الثور».. تعرف على حظك وبرجك اليوم 19 مايو 2024    بيت الأمة.. متحف يوثق كفاح وتضحيات المصريين من أجل استقلال وتحرير بلادهم    منها «تناول الفلفل الحار والبطيخ».. نصائح لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة    كوريا الجنوبية تستضيف وفدا أمريكيا لبحث تقاسم تكاليف نشر القوات الأمريكية    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الأحد    الدفع بمعدات لإزالة آثار حريق اندلع في 10 أكشاك بشبرا الخيمة    القناة الدولية الأهم التى تحمل القضية المصرية والعربية: أحمد الطاهرى: «القاهرة الإخبارية» صاحبة الرؤية الموضوعية فى ظل ما أفسده الإعلام العالمى    إقبال الأطفال على النشاط الصيفي بمساجد الإسكندرية لحفظ القرآن (صور)    «البحوث الإسلامية» يوضح أعمال المتمتع بالعمرة إلى الحج.. «لبيك اللهم لبيك»    حديث أفضل الأعمال الصلاة على وقتها.. الإفتاء توضح المعنى المقصود منه    مسيرات حاشدة في باريس لإحياء ذكرى النكبة والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة    «الصحة» توجه عدة نصائح مهمة للمواطنين بشأن الموجة الحارة    دراسة طبية تكشف عن وجود مجموعة فرعية جديدة من متحورات كورونا    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    أسعار الخضراوات اليوم 19 مايو 2024 في سوق العبور    برنامج واحد من الناس يواجه أحمد ماهر بابنه لأول مرة على قناة الحياة غداً الإثنين    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    ظاهرة عالمية فنية اسمها ..عادل إمام    خبير اقتصادي: صفقة رأس الحكمة غيرت مسار الاقتصاد المصري    الخارجية الروسية: مستقبل العالم بأسرة تحدده زيارة بوتين للصين    "التنظيم والإدارة" يكشف عدد المتقدمين لمسابقة وظائف معلم مساعد مادة    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    عاجل.. صدمة لجماهير الأهلي بشأن إصابة علي معلول    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا وزمرة من الموتى
قصة قصيرة
نشر في الوطن يوم 08 - 04 - 2014

الوجوه تشبه الشمع، سريعاً تذوب متى حاولت القبض عليها بين حدود العين، الشوارع الممتدة المغطاة بنتوءات لا أفهم كيف تظهر؟ أو متى تظهر؟ كثيراً ما تمثّل عائقاً بيني وبين أرواحهم التي أظن أنها لا تُحبّذ انتظاري.
________
وقت النداء.
كأني أجرى بالسيارة المزعجة المتهالكة، راجياً المارة وبقية السيارات أن يفسحوا لنا الطريق، كأنها تتبعني وأنا ألهث منفعلاً، فتلهث معي، تنطلق السرينة تحتضن المسافة فيما بين الأرض والسماء، فتنحسر كافة أصوات الحياة، ويبقى صوتها كزئير عزرائيل داخل الآذان. سيارتى لها رهبة، لا يسع سياراتهم أمامها غير التنحى جانباً لإخلاء الطريق. قد أصل فى موعد مناسب، أتمكن من إنقاذ أحد أبناء آدم، وقد أصل متأخراً، فتبدأ حالة من التوتر والعصبية تنتابنى، عندئذ ربما أفقد أعصابى فأبدو كواحد من أهله -هذا الذى بلغته متأخراً- أهطل الدموع مثلهم، أرتمى فى أحضانهم بحرقة، يعترينى نفس الحزن.
وقد يحدث ألا أصل مطلقاً، إذ يجيئنى النداء أن الحالة استقرت، فابتسم وأعود أدراجى.
هذا عملى؛ الإسعاف.
زميلى "فرج" دائماً يقول:
- الأمر لا يستحق كل هذا الاهتمام، هذا مجرد عمل.
أنظر إليه بلا تعليق، لعله يرانى مبالغاً فى تعاملى مع كل تفاصيل عملى، سرعتى حين النداء؛ لوعتى وأنا ألقم جسم المريض لفيه السيارة؛ قلقى الشديد على حياته؛ مجاهدتى الحفاظ عليها؛ شدى وجذبى فى قسم الطوارئ إذا وجدت تقاعساً عند استقبال الحالة، غير أنه ربما لا يشعر كما أشعر. ماذا أحكى له؟ سيرجح فىّ عدم اتزان العقل. لو يشعر بأن سيارتنا تقل فى ذهابها وإيابها مئات الأرواح، التى تدفع السيارة للحاق بروح ما، مئات الأرواح التى تصطف على جانبى طريقنا وهي تدعو لنا بالتوفيق. لعله لا يلاحظ هالتين من السواد تحيطان بعينى، فأنا فى الواقع لا أنام، ألمحهم متناثرين حولى فى كل الأمكنة، الصالة، المطبخ، الحمّام، غرفة النوم. لم أفكر فى طريقة للخلاص منهم بقدر ما كنت أفكر ما الذى يدعوهم للالتفاف حولى؟! الغريب أننى بعد فترة، لم يعد يعنينى بقع الدماء التى تطول ملابسى من أفواههم وأعضائهم وصدورهم، حيث أحملهم فوق المحفة وأدلفهم داخل بطن السيارة، لم أعد أكترث لتنظيف جوفها من اللون الأحمر، المنتشر بعشوائية على جدرانها البيضاء، أقصد التى كانت بيضاء. كل ما كان يهمنى فى الحقيقة أن أصل بالروح سالمة وأن أحاول ما أمكننى خروجها. أحياناً، أحس أن بعض الأرواح تنازعنى للطلوع. تظل تشد نفسها لأعلى وأظل أقبض على خيط يربطها بدنيانا كى لا أفقدها، أحسها تتضرع: كفى سئمت الحياة، إنما أكابد تعلقها بهذه الحياة، كثيراً ما أكلل بالنجاح حين يسعل الجسد وتبدر منه سمات العودة، كذلك كثيراً ما أخفق، وكثيراً ما أتخبّط بين الفشل والنجاح، أتوه.. لا أعى ملامح الكون من حولى، قد يفاجئنى وقوفى أمام مرآتى، أتحسس تشقق بشرة وجهى من السهر، أدقق النبش عن هويتى فى أعماق مجهول ذاك الوجه، وكثيراً ما يحيرنى أننى لا أجدنى.
أما "فرج" رفيق نوبات العمل تناوله لأشكال التعايش لا أظنها مقننة، بل على العكس، كانت همجية للغاية، وكان على أن أرضخ لكل مساوىء صحبته من أجل طبع وحيد، وهو الانصياع لكل أهوائى ورغباتى، كان فرج لو رآنى أصيح فى قلب المستشفى يتبع ثورتى غير محايد، يقف جوارى صائباً كنت أو مخطئاً، ويساند تبرمى من كل الأشياء مساندة محب لا مقتنع، يصغر لو فكرت فى التمشية بسيارة الإسعاف، كنت أركنها على الكورنيش وسط دهشة الناس وأستند مطلاً للمياه مغمض العينين لا أدرى ما بالى! ربما لأطرد رائحة المرضى التى تستولى على أنفى طيلة اليوم، الأقدام تلتف حول دائرة وقوفى مبتعدة، اخالها ترتجف من احساس ما تشعه دائرتى فلا يختبئ، إحساس هو فى الأصل تحمله ملابسي الفوّاحة روائح الموتى، الملطخة بصبغات الأدوية، ملابسى التى تنبض أنفاس الآخرة.
حالات من عدم التركيز تغير على عقلى فأبدو لفرج مختلاً، لكنه يحتمل خللى فى ود، أنهره أمام الخلق وأسبه وألعن جدوده فلا يفعل سوى الابتسام ويستقبل طريقتى المتعالية فى معاملته بكل سرور، ولا أحسب أنه يستشعر الأشياء غير المرئية ويراها لوحده كما يحدث لى، هذه الأشياء التى تؤرق مضجعى وتدفعنى للهلوسة، حتى بعد وقت ما أشيع عنى -بين الأطباء والممرضين وكل موظفى المستشفى- الجنون.
اليوم يشبه للغاية كل أيام العمل، لا أعتقد جديداً قد يطرأ على مسيره، كعادتي تختلج بين ضلفتى يديى كف أحدهم، نظراته تتماس وكل حواسى، لعله يلقّن روحى بعضاً من بنود المغادرة، تنطبع فوق زجاج عينيه ابتسامة عزرائيل، فتنعكس على وجهى، أشيح به بعيداً، لا أحتمل هذه الابتسامة المريبة، ولا أظننى قادر على العراك، فمتى شاء، سحبه من بين ارتعاشات يديى كأسهل ما يكون، أنا أعرف أنه ربما يبتسم هذه الابتسامة فقط يناطح عزمى ويؤكد امتثالى لأوامر السماء مهما عاندت.
ثم أنا لست رقيباً على روح، أنا مجرد مشبك واهن تتأرجح عليه فى هذه الحياة، لا ليست لى حيلة غير الدعاء، أدعو لهم النجاة، وهم يرشقون فى منتصف رأسى بأعينهم البرّاقة، هذا البريق الذى كثيراً ما يكون الأخير فى هذه الظلماء، الهمسات تتبعثر حولى داخل الكفن الخلفى متواترة لا أكاد أفسرها، لا أدرى أية أسرار هذه التى تتواثب نحو عقلى! لا أدرى كيف أحملها.. ولا كيف أحفظها؟ أسرار.. أسرار.. توصيات.. مراثى، كلها احتمالات الوداع المباغت، أنا آخر وجوه الأمل، وفى نفس التوقيت أنا العزاء الذى لابد منه، لكننى قد أتوه معهم، وأنا أواجه موتهم بقلب ملىء بالحرقة، أستعمل أحياناً كل ما هو من شأنه الحفاظ على حياتهم، رغم ذلك أشعر أن الأدوات التى تتناثر حولى فى السيارة أدوات سخيفة، لا تكفى، ولا تعيد نبضاً أو تعين جسداً، ألهث كثيراً وأنا أتناول كمامات الأوكسجين، أو أدس الإبر فى أجسامهم، يتناقص بيننا الهواء، فألهث، ألهث، وقد أرى من يفزع، من يبتسم، أو ربما أرى من لا يعنيه الأمر، يبدو شارداً، لا يأبه، كهذا الفتى الذى ربت على ساعدى وهو يصعد، كان هناك، فى مكان آخر، لا أعرف.. إنما لم يكن بأى حال هنا معى، شرارة لسعت جسدى كله حين لمسنى، سرت من ساعدى، إلى حلقى الذى جف فجأة، ثم إلى فمى، فخرجت سعلة خافتة، وتساءلت إلام يدعونى وهو يربت على ساعدي؟ ولمّ كل هذه الطمأنينة؟ كلا.. لن يلهينى عن عملى، ينبغى أن أحافظ على حياته، سأركله، سأصفعه، ستتقاطر دموعي فوق قلبه لعله ينتظر ويفعلها بعيداً عن عينى. قل شيئاً، لا تحسب أننى غير مشفق عليك، صغير أنت على الرحلة، لم يشتد عودك بعد، لم تعرف معنى الحياة لتعزف عنه، سأتوحد معك، لنكن جسداً واحداً، روحاً واحدة، لتنتقل ما بيننا بعض الأنفاس، حرّك عينيك نحوى، أرح صدرى، فقلبى الذى ينفطر الآن يدعوك لتؤنسه في نبضه، لتنبضا سوياً، وتجتازا هول التجربة سوياً، لا ترتعد، لا، أنظر إليّ، لا أتقاضى أجرى كل شهر فقط من أجل أن أكون مجرد وسيلة نقل بلهاء، أنا منقذ، هذا عملى، أنا منقذ، لا تُسقط أناملك دون حراك، ولا تذهب، لا، بالله عليك أنفض عن جسدك هذا اللون الأزرق، فما زلت أحاول معك، هيا انهض.. هيا.........................................
هذا اليوم، السيارة تمضى، يقودها فرج، تخترق مجاهل الطرقات، وتمخر عباب البشر فى عجلة، الأرواح ألتفت أراها تسبح حول سيارتنا، تقترب محلقة بسرعة من زجاج نافذتى، أرتد برأسى، تبتعد، تتناوب النقر عليه روح بعد أخرى، أتنهد، أبتسم بأسف، أشكر لها مؤازرتنا، وأنا أزدرد لعابى بقلة حيلة، حالة أخرى بعيدة، والسيارة كلما تسرع كلما تلهث، المشوار عسير، والدعاء على شفتى لا ينقطع، الطنين حدته تزداد، الهمسات تعلو، تعلو، أطياف بشرية وغير بشرية تتكدس حولنا، مثل موج يتلاطم فيرفع نبضات الحيرة، الأسئلة تنهمر على من كل إتجاه، سرعة السيارة تصيبها بالارتجاج، والأرواح فى أعقابنا. الوقت ليل، والليل لا يٌخفي عن بصري تفاصيل المقذوفات التى تشق الطريق عكس اتجاهنا، لعلى أشهدها واضحة بطيئة تمر الهوينى إذ عينى تعوّدت مشاهدة غرائب الأشياء، أو لعلى أفرد البصر ورائى دون عمد فيلازم المشاهد الملقاة خلفنا، كلها تبين بياناً مفصلاً، فتتلذذ ذاكرتى التهامها بشهية متأنية، أرمق فرج، الذى عيناه واسعتين وسعاً غير معتاد، لا أعلم ما منعنى من سؤاله كل حالات الشغل السابقة لم تحرك ساكناً فيك.. فما هذه الحرقة؟ لكن حلقى جف، وأنفاسى جفت، ودموع بدأت تسيل من عينى فرج، فالتفت للوراء، يخترق بصرى زجاج النافذة، ويستقر فى مؤخرة السيارة. هناك، داخل الصندوق الخلفى وفوق سريره الصغير، كان ممدداً ساكتاً لا يحمل أثر النجاة، تجلطت -من اقتحام الهواء كل منافذ الصندوق- دماءٌ، قد تفشّت على سائر ملابسه، وجهه مطمئن، ابتسامته مألوفة تحمل ارتياحاً عجيباً، ابتسامة عزرائيل تطل من عينيه دون خجل، فهناك، فوق السرير، تمدّد جسدى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.