عشقتها . كانوا مجموعة من المشايخ يرونها لأول مرة ، كنت أعرف أنهم يريدونها ، أما أنا فعشقتها ، حكايتي معها حكاية ذبنا في بعضنا كعاشقين، يودون لو يفهمونها وأنا لا أريد ان أفهم شيئا . تنام عندي مرتاحة هانئة تفتح عيونها تسلمني شفرتها بوداعة بمجرد أن أمرر أصابعي عليها ، حين تشعر بنبضها أو سخونتها تستعيد وميضها، تبوح بأسرار قلبها . البندقية ؟ نعم .. البندقية . كانوا مجموعة من مشايخ الدرجة الثالثة أو الرابعة من الإخوان المسلمين ، إخوان ورق ، وكان علي أن أدربهم أن أفك لهم شفرتها ، رموزها ، أن أسلمهم مفاتيحها ، لم يمسوها من قبل ولا شموا رائحة بارودها مرة ، لم يشعروا برجفتها حين تنطلق ولا حين تنزلق بين أيديهم كأنها امرأة تريد أن تهرب منك لتعيدها أنت ولا بهياجها حين تفعلها مرة ، ولا بأنينها عقب أن تملأها وتفّرغ جوفها ، كأنها تريد من يغمزها فقط بإصبع لتعود بإرادتها، من يضغط علي سرتها لتنطلق وتحكي . بين مجموعة مشايخ نصفهم عميان عاش أبو شندي أجمل فترة في حياته في لبنان أثناء وجود الفلسطينيين هناك . اختبأ عندهم ، عاشر و صاحب درب و أعد ، خطط و ضحك ، عرف اللذائذ دون مساحيق .. مشايخ علي حق ربنا لا يفكرون سوي في الأكل والنسوان ، الآن تبدلت الأدوار، جاء دورهم ليعرفوها ليفهموها جيداً كي يشاركوا في الثورة . ماذا يفعل مع أصحاب الكروش والشهوة العارية والخراطيم الجائعة ؟ لو شرحها لمهندس سيحدثه بلغة يفهمها عن الأعمدة والأقواس الناعمة والحديد والنتوءات و الزوايا ، العمارة بمعني الجسد ، عمارة الجسد ، مثله، بشكله ، بروحه ، أعمدته صلابته انحناءاته والفراغ الممتلئ والأشياء الملفوفة. لو شرحها لمن يعمل في صناعة الأحذية سيحكي له عن القالب و المقدمة الرفيعة والمؤخرة العريضة الملفوفة والعيون التي يمر منها الرباط ولمعة الخد والكعب العالي . .. القالب غالب. يضحك .. الفتة إذاً قياس مناسب . لكنه لن يقول لهم ، انهم أمام قصعة من الفته حتي لا يجري ريقهم ويلهثوا. يحتاج لمقياس آخر يقيس عليه . البندقية مثل المرأة ، تشبهها .. ًقال. .. أكثر من يشبهها . الجزء الخلفي فيها اللامع المصقول بعناية ، المنتفخ بحساب حتي تضمه لصدرك جيداً ليركن ويرتاح فيه هو المؤخرة . بلعوا ريقهم . هو باب البدن . مخزن الطلقات هو فرج البندقية ، يسع ثلاثين ..... ضحكة مكتومة انفجرت في الجمع ومن الجمع. . الله يلعن أباكم ( في سره) . - يسع ثلاثين.. ثلاثين طلقة . يده تتحرك بهدوء لأعلي . الجزء الممتلئ تحت رأسها الرفيع المدبب هو صدرها. يحاول أن يضبط الحكاية قليلا، أحس أنها تكاد تتملص منه و تغنج وحدها، وأنهم ساحوا و أدمغتهم ارتفعت بدل أن تفهم . هذه القطعة الصغيرة المدورة ذات التجويف و النائمة داخل مركب هي نن العين التي نري من خلالها الأعداء والأحبة . عيونهم مفتوحة علي آخرها . و الشعيرة الصغيرة المرتفعة هي منخارها الحلو ، و الغطاء الذي يفتح و يغلق هو ثوبها الذي تتزين به ، ستارها وسترها ، هو غطاء باب البدن. لم يبق إلا هذا الجزء الطويل الملفوف بعناية من الخارج ، الناعم المدور، مملوء من الداخل بالتجاويف والتعاريج والانحناءات حتي تخرج الطلقة من الجزء المستقيم مستقيمة إلي هدفها. .. اسمه الماسورة . فكر أن يقول إنه يشبه شيئا آخر لكنه تراجع . .. من عيونهم الجائعة المنسكبة عرفت أنهم لم يهضموها لكنهم عشقوها. عشقتها ، نعم عشقتها . كهربتني . سري التيار في جسدي فجأة دفعة واحدة حين رأيتها . رعدتني . و كمن أصيب بالشلل رحت بالعافية أفرك عيني . لا أعرف بالضبط و حتي الآن ماذا حدث وقتها . اندفع التيار داخلي ، تأكدت ساعتها فقط أنه مازال في جوفي قلب ، قلب يمكن أن يخفق في اتجاه آخر ، الحب لفلسطين بقي منه نبضة توقظها امرأة . كانت تتمشي علي الشاطئ بفستان فوق الركبة بقليل . كل جزء منها يتكلم تحت الفستان وحده ، يحكي حكايته وحده .. يتحدث أو يهمس مع جزء آخر. الفستان فقط كان ينظم الحكايات ، يخفي حديثا دافئا أو يظهر حواراً خافتاً .. فستان بألوان . كانت تتمشي علي الشاطئ، أو لعل الشاطئ أحني خده فرش جسده تحتها. كنت أحتسي كأسا مع صديق علي عتبة شاليه في مواجهتها، علي حافة البحر تماما. انتفضت من مكاني ، نفضت الشلل ، لكن مازال في خدر كبير ، كانت تقترب باتجاهنا و النبض يدق بعنف .. ازدادت قربا ، يا الله . كمن جمع غزالتين في غزالة واحدة أخرج رأسا وأبقي رأسا وأدخل الساقين في الساقين . وقفت بكلي ، بكل ما بقي في، لا أطراف لي، ارتفع.. أكاد أطير، فقط أتشبث علي الارتفاع الذي يجعل عيني في عينيها . لا اتذكر حتي الآن إن كنت قد سلمت عليها أم لا ، إن كنت قد مددت يدي ، كلي ممدود منطلق في اتجاهها كموجة أطلقها البحر ولم يستردها . .. يا ربنا وهي كانت تنتظر وتبتسم بهدوء، كأنها شاهدتني في الحلم ليلة أمس. من ثانيتها دخلت تحت لحمي، تسربت إلي بألوانها . هل رأيت يوماً وجه رجل عاشق؟ هل اكتشفت يوماً كيف تتبدل ملامحك فجأة في المرآة وفي أعين الآخرين؟ كيف تشعر بأنك أصبحت أكثر الرجال وسامة علي وجه الأرض وأكثرهم امتلاءً وزهواً ،. قلت : هل تؤلمك قدميك؟ - لم أمش بعد كثيراً . - لقد جريت أمامي طويلاً في الحلم ليلة أمس . أخذتني ، أخذتها و ذبنا. أصبحنا نفساً واحدة. في العمر تحدث هذه الحكاية مرة واحدة، في القرن قد تحدث مرتين. مسيحية لبنانية يقول لك، يضيف: جمال العشق أنه يصبح هو الديانة، ينحي كل الديانات أو يجعلها تذوب فيه وتأخذ لونه وطقوسه وصلواته. عيناه تلمعان ، تكادان تضيئان: العشق هو الديانة الوحيدة التي تقام طقوسها وصلواتها بالبهجة، وتدق نواقيسه في غير ميعاد حتي وإن صدقت كلام الصوفيين عن نفس الموضوع، صدق بقلبك أكثر كلام واحد عاشق . يغمزك أبو شندي بإصبعه في كتفك حتي تعود : ألهتني عن الدنيا، سحبتني من دنيا البنادق لدنيا الحواس من دنيا لدنيا، كل شيء متوتر في الأولي، مرتاح في الثانية، كل شيء يصرخ في الأولي ويتأني ثم يشهق في الثانية . انتقلت من نار لنار، من جنة لجنة و إن تشابهت الجبهات أو تماثلت. بقلبٍ مغروز في الاثنتين، واحدة أعطيها قلبي وأفكر معها وواحدة أعطيها قلبي وافكر لها. لم نترك فرصة لمطعم ، لحانة ، لبائع زهور ليعتب علينا ، لم نترك لمسة لم نخترعها ، زاوية لم نعطها ما يكفيها بقية العمر من رائحة القبلات ، لعبة لم نلعبها لندخل في بعضنا بالتواطؤ ، لنربح معا، اخترعنا العشق عند كل محطة قطار وعند كل باب ليل . نشم بعضنا من رائحة الهواء، أعرف أين هي بدون بوصلة، أشم رائحتها في كل مكان، وتحضن رائحتي علي جسدها ومخدتها و شرشفها وأنا غائب. لا تغسل ثيابي بعد الاستحمام إلي أن أعود. هل جربت تلك النساء اللواتي يحشرن آخر قطعة ملابس ارتداها رجالهن بين ملابسهن ، في الدولاب أو غير الدولاب إلي أن يعودوا. لا تغادر مقعدها في الشرفة بانتظاري إلي أن تشعر بطيفي . هل تعرف الحب الذي يسبب العدوي ؟ صرنا كالعدوي لكل مكان ندخل فيه، لكل الأصدقاء و لبعض الأعداء، يشار علينا بمجرد أن ندخل ردهة مطعم أو مقهي، عندما نتسكع في سوق أو حانة، كوباءٍ فاخر لا يحتاج مصلاً ضده ، مصله من وبائه . .. امرأتي كانت فلسطين، صرت عاشقا بأربعة أجنحة، معلقاً بالهواء، عشت، لا أعرف كيف أوفق بينهما ، لم أستطع بسهولة . واحدة بين عينيَ، وواحدة تحت عينيَ. أخرت عملية في ألمانيا من أجل عيونها، خربتها، ضاعت بسبب فروق التوقيت في صلاة العشق. لم أستطع أن أتركها وحدها . كانت تلد . لم أقدر علي البعاد ، لم أقدر أن أفارقها أو أتركها لحظة . تحتاجني الاثنتان، منذور لهما، والضعف الإنساني يربح في النهاية ، يغلب الواجب. يقول بصوت غير متأكد به نبرة اعتذار: لا تصدق الكلام الكبير عن واحد ترك عزاء أمه وهرع ليلعب مباراة الكرة من أجل الواجب أو ممثلة صعدت المسرح يوم وفاة أبيها . ليس موقفاً، هو محاولة لدفن الحزن في تربة أخري، أو لربح نقطة علي حسابه، أو توزيعه بغير عدل علي الآخرين . عاقبوني . ربوني أفضل تربية، ثلاث سنوات لم يقل لي أحد في المنظمة صباح الخير، تستطيع أن تقول إنهم رموني.. عندهم حق . أكلتني يدي ، أكلني دماغي، ودمي الحار ازداد فورانا. إلي أن جاء يوم و احتاجوني . عدت لملعبي، للمباراة التي يجب أن تربحها، أو تربحها وتموت، ذهبت للعشق بقلبين . كنت أصل الليل بالنهار، لا أعرف النوم. تعرف: أنا عاشق للمخدرات، نصف أوقية في الليل لا تكفيني، سكير من طراز خاص، لا أغيب إلا في ليلة واحدة بعد أن أنجح في عملية ضد أولاد الكلب. يلعب بعينيه كما يليق بثعلب قديم، ثم يثبتهما ويرمي نظرته إلي بعيد، عينا صقر، لا لا ، عينا لاعب قمار، لاعب بوكر من الطراز الرفيع . .. ألعب علي الطاولة، أراقب كرة الروليت، وأنا أخطط كيف سنصل للهدف . أنا عاشق حتي الثمالة، لا أعرف ما هي الثمالة التي يقولون عليها، لكنني أعرف كيف أحسها ولا أتوه . قلت لك البداية، لا تحاول أن تستنطقه أو تسأله، هو الذي يقرر متي يحكي وماذا يحكي. يتذكر ، يحكي كيف يشفط الكوكايين لليال حتي لا ينام، إلي أن تنتهي العملية. أشرب قدر عشرين شخصاً، عز العنفوان، يمرر أصابعه نحيلة كأنها ستنعطف إلي جهة ما بعد قليل كما يليق بأصابع العازف. وأحيانا كما يليق بأصابع حاو، تراها ولا تراها، كضي حرير يظهر ويغيب كصرخة حرير لها صوت وصدي. من المركز في لبنان خططنا ومن الفرع في ألمانيا أعددنا ونفذنا. حين تحضر سيرة العشق يتكلم أبو شندي كأنه لن يسكت ، يغيب به عن نفسه، عنا كأننا لسنا هنا، وكأنه قبلنا ليس هنا . . ربنا حطني في امتحان . حصلت مشكلة بيننا وبين جماعة من اخواننا العرب، كانوا يقاتلوننا بدل أن يقاتلوا اسرائيل، يتدربون فينا ثم يقاتلونها بعد ذلك، يضحك بسخرية ، كانوا يزاحموننا علي الكعكة اليتيمة في أيدينا . تركت سيارتي، بدلت أوراقي ووسيلة تحركي، رحت أغير كل شيء في إيقاعي . في يوم تعطلت سيارة حبيبتي أم زينة، أخذتك في الكلام، ابنتي أسميتها زينة، نادت الخادمة من أسفل أمام البناية، هبطت بمفتاح سيارتي ومعها ابنتي. قالت أم زينة: خذي البنت واطلعي . ظلت تراقبها حتي اطمأنت أنها صعدت، ودعت ابنتها التي راحت تشير لها من النافذة. في البداية لم تستطع أن تفتح الباب ، حين أدارت المفتاح انفجرت السيارة، وزوجتي طارت من مكانها صاعدة لما يحاذي شرفتنا في الدور الثالث. طار معها كل شيء، فقط ابتسامتها ظلت علي عجلة القيادة التي علت ووقعت في الشرفة، وربما دخلت من شيش الشباك لتودع ابنتها ثانية . تصورت أنهم قد يلاحقونني، لكن ليس لدرجة أن يشطبوني من الكشوف .. أخذت روحي و راحت . . في المسافة من قبرها إلي زينة يأكلني وجعها عشقها حبها ، يتقافز أمامي علي الطاولة ، مثلما قفزت ابتسامتها عن وجهها في الهواء وهي تدير المفتاح . تركت إسرائيل لوقتها ، أدرت المفتاح في اتجاه آخر . حين يحكي أبو شندي بمزاج رائق، لا ينسي أن يضع يده كثيراً علي فمه ، وحين يعصب ينسي فيختلط الكلام بالصفير. كل سن من أسنانه جنبه واحد غائب كأنها سلم موسيقي مكسور. اخواننا العرب إياهم وقت أن حبسوني زمان، كان يخلعون لي سناً و يتركون آخر حتي أستطيع ان أشرب الماء، الله يكرمهم . - تصور . النار أكلتني، لا أكاد أري شيئا. وضعوا لغماً في السيارة ، ومائة لغم في خيوط حياتي. أول ما انتقمت بردت . ودعت الألم، من يومها لم أعرفه . أم زينة ، هي تجربتي الحلوة بالحياة ، هي قسوتي بالدنيا . عدت إلي عملي، أشتم رائحتها في رائحة زينة، أحممها وأبدل لها، فشلت في عمل الفيونكات، فشلت متعمداً كي أدوس غيابها، أحاول ان أسترجع أصابعها في أصابعي. لكن الدنيا بعدها انطفأت ، لم يعد فيها ألوان . طعم الحياة راح . ينظر في عينيك طويلا . .. بعيد عنك ، من يومها لم أضحك من قلبي أبدا . يغيب ، يغيب ، و أنت صامت ، ثم يعود : أحب الدنيا ، أحترم الذي خلقها ، أحترم من يزرع و من يقلع ، لكنني بيني و بين نفسي غير قادر علي الكلام . حزين . لكنني غير قادر علي أن أقول : لماذا أنا هكذا ، خائف أن أطلع من ديني . لا تكذب ، لا تسرق ، لا تتعد علي أعراض أحد .. ، وهبتك للموت من أجل الأرض ، فامنح الحياة لها و لك و للآخرين . لا تمت ميتة عرجاء . لا تكشف سر حبيب ، أمه قالت له . لكنني أكشف سرها الآن ، في كل وقت واستمتع ، هي أنا، هي كل ما تبقي لي لأحكي عنه. من يومها لم أعرف بشراً لديهم من الجمال ما يساعدني علي النسيان . هل رأيت يوما عينا مخنوقة بالحسرة ، و أخري تتعلق بريح الأمل ؟ قف يا أبوشندي ، لا مكان لك هنا ، أنت فقط تتمني لو تستطيع العودة إلي لبنان ساعة واحدة لتزورها . أنت تعرف أن لا قبر لها هي بلا قبر، تسكن في قلبك و مثواها بين ضلوعك ، و الذي هناك ليس سوي عظام حبيب تنتظر ، تشتاق حبيباً ينادي عليها لتجمع نفسها بسرعة و تضم نفسها بعجلة الملهوف . العظام التي طارت في الهواء و التي جمعها في كيس كبير ضمه لصدره قبل أن يدفنه لا تحتاج سوي لسماع صوته لتتدفأ و تجمع ابتسامتها وربما تبتسم . فصل من رواية تصدر قريبا