وصل الفساد إلى حد المرض المزمن قبل ثورة 25 يناير، ولا شك أن الثورة أخافت طائفة فأعادوا ترتيب أوراقهم، وحبست البعض فى السجون، بينما البعض الآخر لا يزال على العهد قائماً، ويبرر موقفه مع ربه أو نفسه بأن ما يفعله ليس فساداً؛ حيث إن الفساد له عنده معنى آخر! ولا شك أن مفهوم الفساد لا يزال يكتنفه شىء من الغموض أحياناً، أو هكذا يشاء البعض، كما أنه مفهوم مرن وهلامى فى ذهن كثير من الناس؛ لعدم وجود تعريف واضح ومعايير محددة. ولذا تأتى هذه المقالة لإزالة التلاعب بمعانى الفساد؛ وتكوين تصورات واضحة المعالم لطبيعته وخصائصه؛ من أجل القضاء على التلاعب فى تحديد مفهوم الفساد الذى يقوم به البعض من أجل تبرير أعماله اللامشروعة وإظهارها بالمظهر الأخلاقى والقانونى! فمفهوم الفساد له معنى خاص عند المفسدين أنفسهم! ولذا لا شك أن وضع حدود للمفاهيم الأخلاقية ضرورى لا من أجل ضبط السلوك فقط ولكن لكشف حالة خداع النفس بوضعها أمام نفسها عارية من كل أساليب التضليل. أوضح كلامى أكثر فأقول إن فكرتنا عن «الصواب والخطأ» قد تكون مشوشة أو غائمة أو مضطربة، وبالتالى فإن سلوكنا يأتى غير سليم، فإذا كنا نعتقد مثلاً أن تعيين أحد الأبناء أو الأقارب فى وظيفة تحت سلطتنا، وهو غير مؤهل لها، نوع من الولاء والإخلاص للقرابة، فإننا هنا نكون قد وقعنا فى خطأ أخلاقى، دون أن نعى ذلك، بل إننا نزيد ونعطى هذا التصرف بعداً أخلاقياً، فنطلق عليه الولاء والقرابة! مع أننا وقعنا فى صميم الفساد الإدارى. وأيضاً من مظاهر الاضطراب فى تحديد معنى الفساد استخدام بعض المفاهيم الدينية بشكل خاطئ، مثلاً «قطع الرزق» الذى يتورع عنه الكثيرون، يقف حائلاً أمام التخلص من العناصر الفاسدة أو عديمة الكفاءة بحجة عدم قطع رزق الناس. وهذا الموقف يشتمل على أخطاء كثيرة، منها أن القائل بهذا المفهوم الذى يظنه دينياً ونوعاً من التقوى، يقع فى تناقض عقائدى شديد؛ إذ إنه دون أن يدرى يعارض بموقفه هذا عقيدة إسلامية أساسية وهى أن «الرزق بيد الله»؛ وبالتالى فمن الخطأ اعتناق مفهوم أن قطع الرزق بيد إنسان مهما كان. ولو فرضنا جدلاً أنه مفهوم سليم، ووجد المسئول شخصاً لا ينفذ التعليمات، وعندما ينفذها يفعل ذلك بشكل خاطئ، ولا يقوم بواجبات عمله، ودائماً لديه تبرير لكل شىء، وهو أيضاً يتجسس على زملائه ورؤسائه، وينقل أخبار العمل بعد أن يلونها ويحرفها، ويوقع بين زملائه ويدس عليهم اتهامات من أجل أن يشوه صورتهم عند رؤسائه، ويتمارض، وعندما لا يكون تحت نظر شخص آخر فإن ضميره منعدم، ويخبر رؤساءه بمعلومات خاطئة... إلخ. وهذا الشخص الذى يرتكب هذه الأفعال أو بعضها يتم تنبيهه أكثر من مرة، لكن طبيعته أو قدراته تمنعه من الاستجابة، بل إنه يعتقد أنه مظلوم؛ لأنه تعوّد على هذا ولم يتعرض له أحد من قبل! والسؤال: هل إبعاد هذا الشخص عن العمل «قطع للرزق»، أم أنه «سبب لرزق شخص آخر ملتزم وكفاءة»؟ ألسنا لو تركنا تلك النوعيات غير الصالحة للعمل، فإننا بهذا نضيّق فرص العمل على شخصيات صالحة لا تجد عملاً؟ أليس فى هذا تشجيعاً للكسالى والفاسدين ومعدومى الكفاءة؟ أليس هذا قتلاً معنوياً واجتماعياً لكل كفء لا يجد عملاً؟ إن مفهوم «عدم قطع الرزق» يعارض عقيدة راسخة فى الإسلام، هى عقيدة (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، (وَفِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ). وأيضاً هو قفز على فلسفة العقوبة فى التشريع الإسلامى، خاصة فيما يتعلق بالمصالح العامة والتى لا يتهاون الإسلام فيها أبداً. وللأسف لا يدرك كثير من الناس مدى التناقض العقائدى الذى يقعون فيه، ولا يدركون مدى الأضرار التى لا تلحق فقط بسلامة إيمانهم، بل تلحق أيضاً بالعمل ومصالح الجمهور عندما يتركون أمثال هؤلاء دون تقويم أو دون نقل أو فصل عندما يفشل التقويم. هذه المفاهيم المضطربة وأمثالها التى يُزايد بها وعليها مَنْ يرتدون لباس الورع الكاذب هى أحد العوامل فى عدم كفاءة دولاب العمل فى كثير من المؤسسات المصرية. وهى تعكس اضطراباً فى منظومة الأفكار والمفاهيم الدينية التى يتم توظيفها بشكل خاطئ. ومن هنا، فإن تحديد مفهوم الفساد ضرورى جداً؛ لأن هناك التباساً شديداً فى معناه بسبب اختلاط الأفكار أو بسبب خداع النفس. وربما يحل تعريف صندوق النقد الدولى للفساد كثيراً من جوانب الالتباس؛ حيث يقول: «إن الفساد هو استغلال السلطة لأغراض خاصة سواء فى تجارة الوظيفة أو الابتزاز أو المحاباة أو إهدار المال العام أو التلاعب فيه، وسواء كان ذلك مباشراً أم غير مباشر». وهذا التعريف على الرغم من أهميته، فإنه تعريف واسع. ويحتاج إلى أمثلة محددة لصور الفساد فى قطاعات عديدة، ونحن مهما اختلفنا حول تحديد أبعاد مفهوم الفساد الإدارى، فإننا لن نختلف على أن من مظاهر الفساد: الروتين المبالغ فيه، والبيروقراطية المفرطة، والتلاعب بالقوانين، وغسيل الأموال، وتضييع الوقت أثناء ساعات العمل الرسمى، واستبعاد الكفاءات لصالح الأبناء أو الأقارب أو الأصدقاء، وتعيين الشخص غير المؤهل لتولى المنصب أو وضعه فى مكان لا يتناسب مع مؤهلاته العلمية، وإهدار تكافؤ الفرص، والتساهل مع البضائع المغشوشة، وعدم مطابقة المواصفات القياسية، والرشوة، والمحسوبية، وتعقيد الإجراءات الإدارية بدون وجه حق كسلاً أو حقداً أو تكبراً أو ادعاءً للدقة، والتبذير وعدم المبالاة فى طريقة استخدام أموال العمل وأدواته. وكل هذه الصور مصائب تنخر فى أركان مؤسسات مصر! ولن يتم القضاء عليها بإعمال القانون فقط، وإنما أيضاً بثورة فى الفكر الإدارى، بل لا بد من ثورة فى «منظومة التفكير الحاكمة للسلوك» تعيد ضبط وإصلاح عقول كثير من المصريين حتى يعود عصر بناة الأهرام الذى نعيش على ذكراه!