فبراير 2014 أخشى أن يسجل التاريخ أن شعب مصر قد قام فى مطالع القرن الحادى والعشرين بموجتين ضخمتين من الثورة الشعبية المبهرة حقاً، انتهت الأولى بإسقاط طاغية استبد بالبلد قرابة ثلاثة عقود، وخرجت الثانية فيما عُدّ أكبر تظاهرة فى تاريخ البشرية احتجاجاً على طغيان وفساد حكم اليمين المتأسلم الذى أسلمته سدة الحكم سلطة الحكم المؤقتة فى المرحلة الانتقالية الأولى. وبعد كل من الموجتين خذلت سلطة الحكم الانتقالية جماهير الشعب بقلة حرصها على غايات الثورة الشعبية. إذن لُدغ الشعب والقوى الثورية من الجُحر ذاته مرتين. لذلك أظن أنه قد حان الوقت للنظر فى أسباب تعثر التحول إلى الحكم الديمقراطى السليم بعد اندلاع الثورة الشعبية العظيمة؛ فالمرحلة الانتقالية الثانية توشك أن تلحق بسابقتها، وبفترة حكم اليمين المتأسلم القصيرة، فى الإضرار بغايات الثورة الشعبية. إن شر هزيمة قد تحيق بطرف فى معركة هو أن يحقق بنفسه أهداف خصمه فيها. وأخشى أن السلطة المؤقتة الراهنة قد وقعت فى هذا الصنف من الإخفاق. لقد قامت الموجة الثانية من الثورة الشعبية العظيمة فى يونيو/ يوليو 2013 لمنع مخطط سلطة اليمين المتأسلم لإهدار الدولة فى مصر من خلال شق الشعب إلى فصيلين متناحرين، قلة من الأهل والعشيرة المحظوظين والباقى من الأبعدين المُقصين، كمقدمة لإهدار كيان الدولة فى مصر بما يصب فى مصلحة قوى معادية للوطن. وبعد سبعة شهور فقط من حكم السلطة المؤقتة الراهنة للمرحلة الانتقالية الثانية، تأكد هذا الانشقاق؛ فتحولت جامعات مصر إلى ساحات حرب وتدمير. ثم على الرغم من إغلاق الجامعات، مازالت شوارع مصر تشهد مظاهرات شبه يومية تواجهها قوى الأمن بالعنف حتى يسقط قتلى وجرحى ويُلقى القبض على كثيرين. وتسىء أجهزة الأمن معاملة المتظاهرين ومن يُلقى القبض عليهم أثناء الاحتجاز أو تمضية العقوبة، فيما يعد ردة إلى أسوأ ممارسات البطش الأمنى قبل الثورة، حتى اضطر المجلس القومى لحقوق الإنسان إلى انتقاد هذه الممارسات علناً، ناهيك عن أنها تمثل مخالفات صريحة لنصوص الدستور الحامية للحريات والحقوق. ولا يسلم ذوو المحتجزين والمحبوسين من سوء المعاملة. ولن يجدى فتيلا أن تنكر «الداخلية»، فقد كانت هذه عادتها قبل الثورة أيضا، والتجوز والإنكار. وبالمناسبة فإن كل هذه التجاوزات تمثل انتهاكات فاضحة لنصوص جازمة فى الدستور الذى قامت على إعداده السلطة المؤقتة الراهنة، فإن لم تحترمه تلك السلطة، فلِمَ يحترمه أى كان؟ لا تخطئ عين حالة الاضطراب والارتباك التى أفضى إليها حكم السلطة المؤقتة الراهنة: الرئاسة وفريقها والوزارة المتضخمة لكن مرتعدة الفرائص، التى بدأ يتساقط بعض أعضائها. وهذه حالة تذكّر بنهايات حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة للمرحلة الانتقالية الأولى ولسلطة اليمين المتأسلم على حد سواء. وحتى الإنجاز المهم المتمثل فى إقرار الدستور مازال محل نزاع بل يدعى أتباع الإخوان الضالين أن أصبح فى البلد دستوران. يتفاقم السخط الشعبى على السلطة المؤقتة الحاكمة لأسباب تعود لالتهاب الأسعار مع تردى جودة السلع الذى يطحن المستضعفين من شعب مصر، وليست الحكومة المؤقتة بريئة من هذا الجرم كما يدل الانقطاع المتكرر للخدمات الأساسية على الرغم من ارتفاع تكلفتها، ناهيك عن تقاعس الحكومة عن واجبها فى ضبط الأسواق والأسعار. ويزيد من غرم الغلاء ثبات الدخول والتقاعس عن تنفيذ الوعد بالحد الأدنى للأجور مع التباطؤ فيما يتصل بالحد الأعلى وبدء تسريبات عن صعوبات تطبيقه تمهيدا للنكوص عنه. كل هذا يفضى إلى اشتداد الفقر والشعور بعتو الظلم الاجتماعى. ناهيك عن الفساد واستمرار سياسات، بل وشخوص، الحكم التسلطى الفاسد الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، ولم تفلح بعد. كما انضمت السلطة المؤقتة الحالية إلى اثنتين سبقتاها فى التقاعس عن المطالبة الجادة باستعادة أموال شعب مصر التى نهبها رؤوس نظام الحكم التسلطى الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، وحولوها إلى خارج مصر، اكتفاء بالاقتراض والاستجداء من الدول العربية الشقيقة، وهى السياسة العقيم ذاتها التى كان يتبعها ذلك النظام الساقط لسد الاحتياجات المالية الآنية فى غياب استراتيجية لنهضة إنسانية حقيقية فى مصر تعتمد ثروتها الأهم من البشر الأحرار العارفين والمبدعين وتعيد بناء موقع ريادتها فى القوة الناعمة فى إقليمها والعالم. وليس غريبا، والحال كذلك، أن تصاعدت وتيرة حركات الاحتجاج الشعبى التى تعد من مقدمات الإطاحة بسلطة قائمة فى التاريخ المعاصر لمصر. أضف إلى كل هذا أن فصيلاً من الشعب من دهماء الإخوان الضالين وأنصارهم قد دخل فى حرب استنزاف مفتوحة مع السلطة المؤقتة الراهنة، ولا يكاد يمر يوم إلا ويقع حادث إرهابى يضر بأفراد الجيش والشرطة، يعكر أمن المواطنين ويكدر حياتهم، ويوقع شهداء أبرياء. نواصل الأسبوع المقبل.