سيد قطب فى مقدمته ينظر إلى الكون من مكان مرتفع.. كل الناس أسفله.. كلهم أهل جاهلية.. تصوراتهم واهتماماتهم ومحاولاتهم هى محاولات وتصورات واهتمامات الأطفال.. تبدو ذاتية «قطب» هنا واضحة تماما وإحساسه بامتلاكه الحقيقة المطلقة هو الأمر الذى استحوذ على كيانه تستطيع أن تتعامل مع شخصية سيد قطب كما تتعامل مع الكتب، ولذلك فإن سيد قطب الإنسان له ثلاث طبعات، الطبعة الأولى هى طبعة الشاعر الناقد، والطبعة الثانية هى طبعة المفكر الاجتماعى، والطبعة الثالثة بدأت فى التشكل بعد أن جاء من أمريكا وأنتجت لنا الكتاب الأخطر فى القرن العشرين «فى ظلال القرآن» ومنه خرج كتاب معالم فى الطريق. أما عن شخصية سيد قطب الشاعر فقد تشكلت فى بدايتها من خلال قرية موشا التى نشأ فيها، وهى إحدى قرى محافظة أسيوط، وكانت قريته ذات طبيعة خاصة جمعت بين النيل والجبل والبساتين والحقول، فكانت هذه القرية هى المعين الأول الذى أمد نفسية ذلك الصبى النحيف بالشاعرية، ولذلك كان من اللافت منذ سنوات عمره الأولى أنه ليس كغيره من الصبيان فى الشغب والانفلات، ولكنه كان دائم التأمل حتى ليبدو أمام الآخرين وكأنه فى تأمله انفصل عن الواقع وعاش فى دنياه الخاصة. كان الشعر هو محطته الأولى فى الحياة وكان كتابه «مهمة الشاعر فى الحياة» هو كتابه الأول، كتبه وهو فى سنته الأخيرة من دراسته فى «دار العلوم»، ومن مدرسة أبوللو الشعرية انتقل إلى أحضان مدرسة عباس العقاد الأدبية، ثم بدأ قطب يشق طريقه الفكرى بمعزل عن العقاد فقد استقام عوده واتسعت مداركه وأصبح التلميذ أستاذا. كان الشعر والشعور هو وسيلة قطب فى الدخول إلى عالم الفكر والأفكار، فمن شاعريته وتأمله أخرج لنا عام 1945 أول كتاب من نوعه يتحدث عن التصوير الفنى فى القرآن الكريم، كان «قطب» معنيا فى هذا الكتاب بالصور الفنية والجمالية فى التراكيب اللغوية القرآنية، وكانت لمساته فى هذا الكتاب لمسات شاعر يستشرف الصور والأخيلة ولمسات ناقد يبرز لنا الجمال الذى قد يخفى عن عيوننا. ومن بعد أخرج لنا كتابه عن «العدالة الاجتماعية فى الإسلام». كتب قطب وقتها كتبه هذه وهو يتحرك ويموج وسط المجتمع المصرى بأطيافه، فمنه استمد شاعريته وإليه يمده بأفكاره، لم ينفصل قطب نفسيا عن الناس وقتها بل كان متصلا ومتواصلا مع الجميع يساهم مع غيره فى اكتشاف المواهب الفذة ويقدم بعضهم للحياة الأدبية، ويمد يده إلى أعماق أعماق الحياة ليستخرج الكنوز ثم يبذر ثروته الفكرية على الجميع حيث لا استثناء لأحد أو تغييب لأحد. وتمر الأيام والسنوات تحدث فيها أشياء وأشياء، وتتغير فيها نفسيات، وتضيق فيها الأفكار، وتتحجر فيها العقول، ثم نصل إلى نهاية سيد قطب على المشنقة عام 1966 متهما بمحاولة قلب نظام الحكم والتخطيط لاغتيال جمال عبدالناصر، حيث ترك الشاعر قلمه وأحاسيسه وأمسك سيفه وخنجره، ومن بعدها ينال كتابه «فى ظلال القرآن» شهرة واسعة النطاق لا تتناسب مع قيمته.. فهل كانت النهاية المأساوية لسيد قطب هى السبب فى الشهرة التى نالها «فى ظلال القرآن»؟ أجاب عن هذا السؤال جمهرة من العلماء الثقات الكبار، حيث رفضوا اعتباره تفسيرا معتبرا يعود المسلم إليه ليفهم ويعرف ويتعرف، لذلك ففى أغلب الظن كان إعدام قطب هو أهم أسباب التعاطف معه ومع تفسيره. كانت شخصية قطب ونفسيته هى العنصر المؤثر فى تفسيره، شخصية الفنان والشاعر، ذلك الفنان الذى تعتبر ذاتيته وإحساسه بتفرده هى الدفقة التى تدفعه للإبداع، نلحظ ذلك من مقدمته التى كتبها لتفسيره حين قال فى مقطع منها (وعشت -فى ظلال القرآن- أنظر من علو إلى الجاهلية التى تموج فى الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هؤلاء؟!). سيد قطب فى مقدمته ينظر إلى الكون من مكان مرتفع.. كل الناس أسفله.. كلهم أهل جاهلية.. تصوراتهم واهتماماتهم ومحاولاتهم هى محاولات وتصورات واهتمامات الأطفال.. تبدو ذاتية قطب هنا واضحة تماما وإحساسه بامتلاكه الحقيقة المطلقة هو الأمر الذى استحوذ على كيانه.. ليست مفاصلة هنا تلك التى يضعها بين الكفر والإيمان ولكنه يجعل الدائرة أكثر اتساعا لتكون بين أهل الجاهلية وأهل الإيمان.. أهل الجاهلية من المسلمين وغيرهم.. وأهل الإيمان الذين استقاموا على فهم سيد قطب الذى وضعه فى «الظلال». وفى تفسيره هذا كانت نظريته التكفيرية، حيث اعتبر أن القضية ليست فى أن المسلمين لا يجاهدون من أجل الدين، ولكن القضية تكمن فى أنه لا يوجد مسلمون ولا إسلام من الأصل! كل العالم أهل جاهلية حتى لو قالوا لا إله إلا الله، ورفعوا الأذان وصلوا وصاموا وحجوا، فهذا ليس هو الإسلام ولكنها جاهلية ارتدت ثوب الإسلام. ولأن الحقيقة قد تتوه بسبب أتباعه من الإخوان الذين رفعوه فوق مرتبة البشر، وحولوا موته إلى كربلاء جديدة نسجوا حولها الأساطير، فإننا نستطيع القول بأن بين سيد قطب وتفسيره خيط رفيع، حتى إننا قد نتوهم أحيانا أن «قطب» هو «الظلال» و«الظلال» هو «قطب»، حيث طبع شخصيته فى الكتاب ووضع نفسه داخل الغلاف، لا ريب عندى أن «الظلال» ليس من كتب التفاسير المعتبرة ولكنه خرج كمجموعة خواطر اعتملت فى عقل صاحبها فأفرغها -كما قال- فى القراطيس، بيد أن هذه القراطيس التى سمّاها «فى ظلال القرآن» أخرجت لنا برغبة صاحبها كتابا كان هو الدستور الأكبر للحركة الإسلامية المتشددة، ألا وهو كتاب «معالم فى الطريق» الذى كان «مانيفستو» حركات العنف التى اتشحت بثياب إسلامية.