من أعجب الظواهر السائدة فى المجتمع المصرى اليوم سيادة ما أطلقنا عليه من قبل نزعة خداع الذات وإنكار الواقع! حينما نحلل المشهد السياسى الراهن بكل ما يزخر به من تعقيدات مربكة وصراعات عقيمة معتمدين فى ذلك على مؤشرات كمية وكيفية وفقاً لتقاليد العلم الاجتماعى، فسنجد بعض المعلقين ينكرون الواقع ويتهربون من الإجابة عن الأسئلة الحاسمة التى نطرحها فى تحليلاتنا. طرحت فى مقال سابق لى بالأهرام مشكلة فوضى الصراع بين الشرعيات السياسية وعنيت به الصراع بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية، أو ما اصطلح على تسميته «شرعية الميدان» و«شرعية البرلمان». وفوجئت ببعض التعليقات على المقال تريد لشرعية الميدان أن تبقى إلى الأبد لأننا فى عصر الثورة حتى تحقق أهدافها ولو بعد سنوات. ومعنى ذلك أن كل فصيل سياسى أو جماعة ما أصبح من حقها أن تخرج لتتظاهر فى الشوارع والميادين دون أى ضوابط، وقد تنزع إلى قطع الطرق ومنع السيارات من المرور، وكل ذلك باسم الشرعية الثورية! هل هذا كلام منطقى؟ وهل هذا السلوك من شأنه أن يشيع جو الاستقرار فى البلاد أم جو الفوضى العارمة التى ليس لها حدود؟ وقد أحس الرئيس «محمد مرسى» -وهذا ما يحمد له- بأهمية الانتقال إلى الشرعية الدستورية كما صرح مؤخراً، وذكر ذلك على استحياء مقدراً كم المقاومة التى قد يلقاها من التيارات الثورية حقيقية كانت أو مزعومة، جادة كانت أو هازلة، بل من جماعة الإخوان المسلمين التى ينتمى إليها ذاتها. والرئيس حين صرح بذلك من المؤكد أنه طاف بخاطره المبدأ الذى ألح عليه بعد انتخابه وهو أنه رئيس لكل المصريين. غير أن جماعة الإخوان المسلمين بعد القرارات التاريخية التى أصدرها الرئيس، التى -كما يقولون بمبالغة شديدة- أنهى بها حكم العسكر، وكأنه ألغى دور القوات المسلحة المصرية فى حماية الشرعية الدستورية، قررت أن تنزل إلى الشوارع والميادين لتأييد قرارات الرئيس. وهذا سلوك سياسى يعيب فى الواقع، لأن الرئيس «مرسى» منتخب بإرادة شعبية بغض النظر عن النسبة التى نجح بها، ومن هنا هو ليس فى حاجة إلى مظاهرات فى الشوارع لتأييده، وذلك لأن القرارات التى أصدرها تدخل فى صميم اختصاصاته كرئيس للجمهورية «وفق آراء عدد من الفقهاء الدستوريين». وفى المعسكر الآخر المضاد للإخوان المسلمين جاءت دعوة لمظاهرة حاشدة كبرى دعا إليها بعض النشطاء السياسيون المعروفون لإسقاط حكم الإخوان المسلمين وإسقاط رئيس الجمهورية! وهذه فى تقديرنا دعوات مضادة تماماً للديمقراطية التى طمحت لها ثورة 25 يناير وقدمت التضحيات الجسيمة من أجل أن ترسى قواعدها بعد سنوات الاستبداد السياسى الطويلة. وليس من حق أى جماعة سياسية أن تدعو لإسقاط رئيس الجمهورية حتى لو كانت تختلف معه اختلافاً سياسياً جسيماً، وذلك لأنه وفقاً للقواعد الديمقراطية فإن الانتصار على رئيس الجمهورية وإسقاطه فقط تكون فى الانتخابات الرئاسية المقبلة بتقديم مرشح منافس له يحظى بثقة الجماهير، ويستطيع أن يهزمه ديمقراطياً وليس عن طريق مظاهرات الشوارع باسم الشرعية الثورية! هكذا فعل الحزب الاشتراكى فى فرنسا حين أراد إسقاط الرئيس السابق «ساركوزى» لمعارضته لسياساته الرأسمالية المتخذة، فقام بترشيح «أولاند» زعيم الحزب وحشد كل صفوفه ونزل إلى ساحة الانتخابات واستطاع أن يهزم «ساركوزى» ويتولى الحكم. هذه هى الشرعية الدستورية التى ندعو لها وليست الشرعية الثورية التى تنادى بها جماعة الإخوان المسلمين هذه الأيام من باب الانتهازية السياسية، لأنها فى مرحلة ما تركز على الشرعية الدستورية لو وافقت مصالحها، وفى مرحلة أخرى تدعى أنه لا بد من ممارسة الشرعية الثورية، والواقع أنه لو ترك موضوع الشرعية السياسية معلقاً بين «شرعية الميدان» و«شرعية البرلمان» فلن يتاح لبلادنا أن تنعم بأى استقرار سياسى، مما سينعكس سلباً ليس على مناخ الاستثمار فقط ولكن على السلام الاجتماعى ذاته والعلاقات السوية التى ينبغى أن تسود بين كافة الأحزاب السياسية وكل الطبقات الاجتماعية، فى إطار مشروع حكومى جامع مؤسس على رؤية استراتيجية بعيدة لمصر نشارك جميعاً فى بلورتها بلا إقصاء لأحد فى وضعها بطريقة علمية وبأسلوب منهجى.