■ أرسل الله سيدنا هوداً إلى عاد فوجدهم أهل كبر وطغيان وجبروت رغم حضارتهم العمرانية فقال لهم بعد أن دعاهم إلى التوحيد «َأتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ». ■ وأرسل الله سيدنا شعيباً إلى مدين، فوجدهم تجاراً يطفّفون المكيال والميزان ويبخسون الناس أشياءهم.. فقال لهم بعد أن دعاهم إلى التوحيد: «يَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ». ■ وأرسل الله سيدنا لوطاً إلى قومه فوجدهم مخنثين يعاشرون الرجال شذوذاً، فقال لهم بعد أن دعاهم إلى التوحيد: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ». ■ فكل رسول منهم كان له خطاب يختلف عن الآخر بسبب الأدواء والأهواء التى تتفشى فى قومه.. والحمد لله أنه لم يكن على عهد هؤلاء الرسل وزارة الأوقاف المصرية.. وإلا لأمرتهم جميعاً بتوحيد خطابهم وألزمتهم بخطبة موحّدة.. ولربما أمرت سيدنا لوطاً أن يحدّث قومه عن العشوائيات.. أو أمرت سيدنا شعيباً أن يتحدث عن مشكلة الشذوذ حتى وإن لم يكن موجوداً فى قومه. ■ فها هى وزارة الأوقاف المصرية تلغى كل معانى التعددية حينما تأمر الخطباء فى مصر بخطبة واحدة رغم شدة تنوّعات المجتمع المصرى وتعدد مشاكله وهمومه وتغيّرها من محافظة إلى أخرى.. ومن القرية إلى المدينة.. ومن البادية إلى الحضر. ■ فهل مشاكل الذين يسكنون مدينة نصر والمعادى و6 أكتوبر مثل مشاكل الذين يسكنون الريف أو بدو سيناء أو مطروح؟ ■ كيف تلزم خطباء يتحدثون إلى أكثر من 50 مليون مصلٍّ بخطبة عن العشوائيات مثلاً؟ وهل العشوائيات وإصلاحها مسئولية الدولة أم مسئولية المصلين؟ وهب أن خطيباً يعيش فى قرية غرق بعض أهلها فى النيل هذا الأسبوع.. فهل يترك مواساتهم وتصبيرهم ليحدثهم عن العشوائيات. ■ أين ما درسناه جميعاً فى الدعوة إلى الله من الاهتمام ب«الدعوة بالحدث» التى تعلمناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ■ إن وزارة الأوقاف المصرية تريد أن تحارب الاستقطاب السياسى والحزبية المقيتة التى أصابت مساجدها بمصادرة الحرية وإلغاء التعددية.. حتى فى اختيار الخطيب موضوع خطبته بما يتناسب مع الزمان والمكان والمدعوين وحاجتهم وأزماتهم. ■ ولو كانت الوزارة منصفة لألفت كتاباً كبيراً للأئمة فيه مئات النماذج لخطب متميزة تناسب العصر للاسترشاد بها والتعلم منها دون أن تفرض عليهم شيئاً ثقة فى علمهم وحكمتهم مع محاسبة المخطئ.. وليكن ذلك فى إطار التجويد والتحسين، لا فى إطار الفرض والإلزام الذى يلغى العقول ويهدم التعددية، ويجعل الخطيب أشبه بجهاز التسجيل الذى ينطق بما سُجّل على الشريط. ■ وهل تستطيع صحيفة أن تفرض على كتّابها ما يكتبونه أو طريقة عرض موضوعاتهم؟ ولو حدث هذا ستغلق الجريدة أبوابها ويمتنع الناس عن شرائها. ■ فالتعددية ليست مصدراً للشر، وهى تختلف عن الفوضى.. والإشكال الحقيقى فى مصر ليس فى التعددية.. ولكن فى إدارة التعدد بطريقة صحيحة ليصب فى صالح الدين والوطن.. وليس مهمة الدولة السيطرة على كل مساحات المعرفة والعلم والرأى.. ولكن تنظيمها وترتيبها والحيلولة بينها وبين الفوضى. ■ ولا ينبغى لمساجد الأوقاف أن تنتقل من الفوضى التى كانت تعيش فيها بعد ثورة 25 يناير إلى الكبت والتضييق على الأئمة والدعاة ومعاملتهم معاملة الأطفال. ■ فالفوضى والكبت نوعان من التطرّف لا يليقان بأى مكان فضلاً عن بيوت الله.. والمساجد كانت تعانى من التحزب الممقوت والاستقطاب السياسى ولكن لا ينبغى أن تنتقل منها إلى صمت القبور أو تحيا بلا نشاط دعوى فيؤمّها أصحاب المعاشات فقط دون الشباب الذى سيذهب إلى أئمة التطرف والغلو أو التكفير.. «وكأنك يا أبوزيد ما غزيت». ■ فعلينا أن نجعل مساجد الأوقاف وغيرها شعلة من النشاط الدعوى الدائب والدائم مع تطبيق معايير الجودة والمعايير العلمية على هذه النشاطات بدلاً من كبت الحريات أو تسيير المساجد بالبيروقراطية التى لا تهدى قلباً ولا تزرع إيماناً. ■ وفى الختام لا بد أن يعلم الجميع أن صلاة الجمعة هى دعوة ونداء من الله وليس من الحكومة أو الوزارة.. وهى اجتماع دعا الله المسلمين إليه، ولم تدعهم الدولة أو الوزارة إليه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِى لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ». ■ وهذه العلاقة الحميمة هى فى الأصل بين المسجد ورواده من ناحية وبين الإمام والخطيب من ناحية أخرى.. ولا مانع من مراقبة هذه العلاقة من قِبل الوزارة وتقييمها بالطرق العلمية وأساليب الجودة الحديثة دون الحجر على الجميع بهذه الطريقة الفجة التى ستحول الدعوة من هداية للخلائق إلى دفتر حضور وانصراف.