لقد كانت «الخلافة الإسلامية» سببا رئيسا فى سفك دماء ملايين البشر، حتى سقطت على يد كمال أتاتورك، الذى ألغى نظام الخلافة، وأقام الجمهورية التركية، فى 27 رجب 1342ه، الموافق 3 مارس 1924م. ولقد شاء الله تعالى ألا يكون لنظام «الخلافة الإسلامية» تفصيل فى القرآن الكريم، وتركه -بعد وفاة رسول الله- لاختيار الناس، وحذرهم من أن تكون (الخلافة) سببا فى الإفساد فى الأرض وسفك الدماء، الأمر الذى جعل الملائكة تتوقف أمام كلمة «خليفة»، عندما قال الله تعالى لها: «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً»، فقالت، بعد أن علمت أن «الخليفة» هو الذى يخلف غيره، الأمر الذى قد يسبب صراعا على السلطة وسفكا للدماء، قالت: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ»؟! ولم ينف الله تعالى أن «الخلافة» ممكن أن تكون سببا فى الإفساد وسفك الدماء، ولكن بيّن أن هذا يحدث فى حالة لم تقم «سنة الاستخلاف» على «العلم»، والفهم الواعى ل«سنة الاستخلاف»، لذلك جاءت الإجابة على الملائكة: «إِنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ»، ثم بعدها مباشرة: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا»، وعلى هذا الأساس، وما حمله آدم من «علم»، ومن فهم واع لسنة وآلية الاستخلاف.. أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم. إن سجود الملائكة لآدم، عليه السلام، تكريم للعلم، وبالتالى تكريم لآليات التفكر والتعقل والتدبر والنظر.. آليات عمل القلب، القاعدة التى تقوم عليها «سنة الاستخلاف»، ونظام «الخلافة» فى الأرض. وهذا ما بيّنته سورة «النور»، فى قوله تعالى: «وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِى الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ». [55] لذلك أقول، وباختصار: إن «سنة الاستخلاف» فى الأرض، وتمكين الدين الذى ارتضاه الله للناس، يتطلب: أولا: الإيمان بوحدانية الله عز وجل، وإخلاص العبودية له سبحانه، وعدم الإشراك به شيئا، وهذا يقتضى ألا تكون هناك شريعة حاكمة للوجود البشرى إلا الشريعة الإلهية، وهذا بيّنه قوله تعالى: «يَعْبُدُونَنِى لا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً. وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ». ثانيا: عمل الصالحات، وهو الصورة العملية ل«أولا» على أرض الواقع. والعمل الصالح هو الذى يحقق «التنمية المستدامة»، أى التنمية القائمة على قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، وذلك بإصلاح الحاضر بهدف بناء مستقبل أفضل.. وإبطال الفساد إصلاح. ثالثا: تمكين الدين، الذى ارتضاه الله للناس كافة، وليس الدين الذى صنعته الفرق والمذاهب المتصارعة بأيديها، لذلك لا نجد، منذ قرون مضت، تمكيناً لهذا الدين الصافى النقى الذى ارتضاه الله للناس، لماذا؟! لأن المسلمين لم يحققوا «المطلوب» فلم يوف الله ب«الموعود»!! وبناء على ما سبق، أقول: إن «الخلافة» ابتلاء، يقول الله تعالى فى سورة «الأنعام»: «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ» «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ» «لِيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ»، أى أن «الخلافة» ابتلاء، كما أن «تفاوت الناس فى الدرجات» ابتلاء. فإذا ذهبنا إلى الابتلاء الذى واجه «الخلافة الإسلامية» نجد أنه لم يمر بسلام إلا فى عصرى الخليفة الأول: أبوبكر، والثانى: عمر بن الخطاب، فقط، ثم بعد ذلك تحولت «الخلافة» إلى صراع على السلطة، وسفك للدماء بغير حق!! أى أن النموذج الأمثل ل«الخلافة الإسلامية» لم يدم أكثر من ثلاث عشرة سنة!! واقرأوا التاريخ، بداية بالمواقف والظروف التى أحاطت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، مرورا بالفتوحات التى ادعوا أنها إسلامية، ثم أحلام الخلافة فى أفغانستان والسودان.. وأخيراً الحلم الذى لم يدم طويلا، حلم الجماعات الدينية التى حكمت مصر عاما كاملا، على حين غفلة من شعبها، وهى المسئولة إلى يومنا هذا أمام الله تعالى عن الدماء التى سفكت خلال هذا العام، ولا أستثنى منهم أحدا!! لأن السؤال: - من الذين تحالفوا، بعد أن كانوا أشتاتا، وحكموا البلاد، وأفرجوا عن الذين سفكوا الدماء بغير حق، من قادة وأعضاء الجماعات الدينية، وأصدروا عفوا رئاسيا لبعضهم، ليشاركوا جميعا فى تحقيق حلم الخلافة الإسلامية؟! وهل تحرك أحد لإيقافهم عن هذا العمل؟! لا.. ولم تتدخل الأجهزة الأمنية لإيقافهم. - من الذين تحالفوا مع المفسدين فى الأرض، فى الداخل والخارج، لحماية نظامهم الحاكم، وسمحوا لهم بانتهاك حرمة البلاد، وتزويد أنصارهم بالأسلحة المتطورة المختلفة، طوال فترة حكمهم للبلاد؟! وهل تحرك أحد لإيقافهم عن هذا العمل؟! لا.. ولم تتدخل الأجهزة الأمنية لإيقافهم. - من الذين استغلوا مناصبهم فى توظيف جميع المؤسسات الحيوية فى الدولة لخدمة مشروع الخلافة الإسلامية، وحصلوا على وثائق ومعلومات خاصة بسلامة وأمن البلاد؟! وهل تحرك أحد لإيقافهم عن هذا العمل؟! لا.. ولم تتدخل الأجهزة الأمنية لإيقافهم. - من الذين حضروا الاحتفالات القومية للبلاد، خاصة الاحتفال الذى أقيم لتأييد الشعب السورى ضد نظامه الحاكم، الذى أقيم فى الصالة المغطاة.. وكانوا «أمة واحدة»، وأعلنوا يومها إقامة «الخلافة الإسلامية»؟! وهل تحرك أحد لإيقافهم عن هذا العمل؟! لا.. ولم تتدخل الأجهزة الأمنية لإيقافهم. - من الذين وقفوا على منابر الدعوة، يعظمون ويمجدون إمامهم، وألبسوه لباس «الولاية»، باعتباره خليفة المسلمين المنتظر، الذى بشرهم رسول الله بخلافته؟! وهل تحرك أحد لإيقافهم عن هذه المهزلة الدينية، والسياسية؟! لا.. ولم تتدخل الأجهزة الأمنية لإيقافهم. - أما عن توظيف ميزانية الدولة، وأموالها، واقتصادها، لخدمة المشروع الإسلامى وتحقيق حلم الخلافة الإسلامية.. فحدث ولا حرج!! والسؤال: إذا حان الوقت، بعد أن طفح الكيل، وأوشكت البلاد على السقوط فى قبضة المفسدين فى الأرض.. ولم تكن هناك قوة تستطيع إنقاذ البلاد من هذا السقوط إلا «القوات المسلحة»، ونجحت فى ذلك بمساعدة أجهزة الشرطة.. فهل من الحق والعدل أن نختزل عاما من الخيانة والمؤامرة على الشعب المصرى «والناس نيام» فى الدماء التى سفكت يوم فض اعتصامى رابعة والنهضة، وما نتج عنه من أحداث، لتصبح القضية «قميص عثمان»؟! أعلم جيدا، أن كل هذه الاتهامات السابقة، الظاهرة ظهور الشمس فى كبد السماء، لن تجد قبولا عند أنصار هذه الجماعات، ولا عند المتعاطفين معها.. لأن القلوب التى غُيّبت ب«نظرية المؤامرة»، لا تجد مبررا لمصيبتها، وتخلفها، وتخاصمها، وكفرها بالآخر، وسفكها للدماء.. إلا أن ترفع راية «المؤامرة المؤامرة»!! أليس منكم رجل رشيد؟!!