قال تعالي: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (30 البقرة). ينتشر في معظم كتابات السلف والخلف قولهم: (الإنسان خليفة الله في الأرض). إلا أن القوم قد اختلفوا في من (المخلوف)؟، فقال قائل منهم: آدم خليفة الله في الأرض، وقائل: آدم خليفة الجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل آدم، وغيرها من الأقوال التي لا برهان عليها، وهذا الخلاف جاء من خلط القوم بين دلائل ومعاني الأفعال: (رسل، وكل، فوض، خلف) وظنوا أنها جميعا تحمل معني واحدا، ولو تقصينا دليل ومعني كل فعل منها لوجدنا أن كل فعل منها يحمل دلالة ومعني يخالف الآخر، فالفعل (رسل) أو (أرسل): يدل علي بعث غيرك إلي شيء من دون حضورك. والفعل (وكل) أو (أوكل): يدل علي اعتمادك علي غيرك في أمرك وجعله نائبا عنك. والفعل (فوض): يدل علي اتكالك علي غيرك في رد أمرك إليه. أما الفعل (خلف) محل النقاش: فيدل علي مجيء شخص بعد شخص ليقوم مقامه، ويدل علي التأخر خلاف التقدم، إلا أن القوم جعلوا كل هذه الأفعال تحمل مفهوما واحدا ودلالة واحدة مما جعلهم يحملون معني كل من الرسول والوكيل والمفوض إلي معني الخليفة ليستبدلوا به المعني الحق للخليفة من دون علم ولا برهان ولا سلطان، فظنوا خطأَ أن الله جعل آدم في الأرض خليفة له بمعني نائبا عنه، أو جاء به ليرد إليه أمر تدبير شئون الأرض ويقيم الحق والعدل فيها، أو جعل آدم خليفة للجن الذين كانوا يسكنون الأرض حسب زعم القوم، وبقولهم هذا قد أضلوا الناس عن إدراك الحق في خلق آدم واستخلافه في الأرض فوقعوا في الضلال بعيد. ولو وقفنا علي المعني والدلالة الحق لكلمة (الخليفة) لوجدنا أنه من الخطأ الفاحش أن يكون آدم خليفة الله في الأرض، لأن من دلالات الفعل (خلف) أنها تدل علي الخلف ضد القدام، قال تعالي: (يعْلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). (البقرة: 255)؟ وقال تعالي: (فَالْيوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيةً) (يونس: 92)؟ ومنها (خلف) ضد تقدم ويقال: تخلف فلان فلانا إذا تأخر عنه أو جاء خلف آخر وقام مقامه، ومصدره الخلافة، نحو: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ) (مريم: 59) ويقال لمن خلف آخر فسد مسده، وخلف فلان فلانا، قام بالأمر عنه، والخلافة لا تكون إلا نيابة عن غير إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته؛ وإما لعجزه؛ قال تعالي: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ) (فاطر: 39) وقال: (وَيسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيرَكُمْ) (هود: 57). أما الاختلاف والمخالفة: فهو تنازع في خلافة شخص لآخر في قوله أو فعله رغم وجوده، قال: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ من بينهم)، (مريم: 37) وَلاَ يزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود:118)؟ (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ) (الذاريات: 8) وقال: (وَلاَ تَكُونُواْ كالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَينَاتُ) (آل عمران105). وبهذا المعني وبهذه الدلالة لكل من كلمة خلف وخلافة وخليفة لا يمكن أن يكون آدم خليفة لله في الأرض، لأن الخليفة في الأصل هو الذي يخلف غيره ويأتي وراءه أو بعده بدلاً عنه في عمل يعمله، وهذا محال في حق الله لأن الله لم يكن مقيما في الأرض وتركها ثم جعل آدم خليفة له، ولم يكن الله يعمل عملا ما في الأرض ثم جاء بآدم من ورائه أو بعده بدلا عنه للقيام بذلك العمل، ومن المحال أن يجعل الله آدم خليفة له ليتولي عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل والوصي، ولا يستقيم معني الخلافة مع جعله في الأرض مدبراً يعمل ما يريده الله في الأرض، لأن الله تعالي لم يكن حَالاً في الأرض ولا عاملاً فيها ليستخلف آدم من بعده، ومحال أن يكون الخليفة خليفة إلا لمن كان له مقام حقيقي في محل الخلافة ثم رحل، ومحال أن يخلف شخص شخصا آخر لم يكن له وجود في محل الخلافة، وفي المقال القادم نسوق عددا من آيات القرآن التي تثبت هذا المعني للخلافة. (للحديث بقية)