اتخذ الرئيس قراراته الثورية وانتظر نزول الجماهير إلى ساحات الميادين والشوارع في جميع أنحاء البلاد لمباركة القرارات والتأكيد على أنها صدرت في التوقيت المثالي.. وقف الرئيس في شرفة القصر وهو يعد نفسه بالنوم هذه الليلة وهو يتسمع هتافات الجماهير الهادرة وهي تحلف بحياته أنه لا زعيم إلا الزعيم! طالت وقفته ولم يمر شخص واحد أمام القصر الجمهوري حتى ولو لإلقاء التحية عليه، وعندما طالت وقفته نادى على كبير حراسة قائلًا: إنني أتشكك في قيامكم بإبعاد الجماهير عن مقر الرئاسة، أتصور أنكم تلعبون عليّ الآن، أو أن هناك مؤامرة تحاك ضدي، عليك ودون تردد أن تقول لي حقيقة ما يحدث. يتحدث الرئيس وكبير حراسة دائم تحريك رأسة نافيًا اتهامات الرئيس له بل يؤكد أن ما يحدث لا علاقة له به، ثم تحدث قائلًا: لعل هناك ما يشغل بال الجماهير أكثر من قرارات سيادتكم، والتي مع الصباح سيعلم بها القاصي والداني. ثم توقف عن الحديث عندما أشار له الرئيس بيده.. كفى، كفى، ما الذي سيشغل بال الجماهير عن تأييد هذه القرارات الثورية العظيمة؟، ثم نظر له صارخًا: هيا ارسل في طلب مسؤول المخابرات على الفور. خرج كبير الحرس من المكان مسرعًا يهرول ليقوم بتنفيذ اوامر الرئيس، حتى لا يجد نفسه وقد اصابه مكروه جراء غضب الرئيس غير المسبوق. قال الرئيس لنفسه: هل هذا معقول ؟!، هل تغافل الشعب عني ولا يرغب في معرفة قراراتي الثورية التي طالما نادى بها في الميادين والشوارع، هل اصبح لديه ما يحرص عليه ويحاول تحقيقه أكثر من معرفة القرارات غير المسبوقة التي للمرة الأولى تمر بها البلاد. دقات خفيفة على باب المكتب، تقطع حديث الرئيس مع نفسه بكلمة أدخل.. يدخل مدير المخابرات وهو يقول : أوامر معاليكم.. قال الرئيس: لماذا لم تتفاعل الجماهير مع قراراتي الثورية ماذا فعلتم بهم؟!.، أجب وإلا اصدرت قرارًا في حقك الآن، وأعلم انني أرفض كلمة لا أعلم،فمن المفترض أنك تعلم هذه هي مهمتك في العمل.. أجب وفورًا. يتحدث مدير المخابرات قائلا: الحكاية بسيطة يا سيادة الرئيس، الجماهير الآن تعد نفسها للخروج تأييدًا لك، الأمر لن يستغرق سوى دقائق وسوف ترى وتسمع بنفسك هتافات التأييد والمباركة لكم.. يرد الرئيس قائلا: سنرى ونسمع .. سنرى..! الهتافات تتصاعد بين أرجاء القصر.. عاش الرئيس .. عاش الرئيس. قال مدير المخابرات باسمًا: ألم أقل لسيادتكم.. قال الرئيس: ولكن لماذا تأخروا في إعلان موقفهم المؤيد للقرارات.. قال مدير المخابرات: المواصلات سيدي في البلاد أصبحت لا تطاق، الزحام لا مثيل له، ألتمس لهم العذر فهم جماهيرك في نهاية الأمر. ينظر الرئيس من الشرفة ليراقب الجماهير المؤيدة، فيجدهم كلهم من الشباب، والذين تظهر السمرة الشديدة في وجوههم، جراء قضاء ساعات طويلة تحت نيران الشمس الحارقة. يلتفت لمدير المخابرات قائلا: ما هذا أين المرأة ؟!.، وأين كبار السن؟!. من هم بالخارج هم من الصغار فقط في سن الشباب، بماذا تفسر هذا الأمر. مدير المخابرات: هؤلاء هم من استطاعوا السير على الأقدام حتى القصر(!)،أما من ذكرتهم فهم في الطريق الآن،عبر وسائل المواصلات العامة،ثم سيادة الرئيس انقطاع التيار الكهربائي عن جموع الجماهير جعلهم يخشون الخروج من منازلهم. الرئيس: وأين الشموع ، وأين..... رد مدير المخابرات مقاطعًا.. معذرة سيادة الرئيس.. اقبال جماهيري على شراء الشموع لإنارة منازلهم،وأنني اقترح على سيادتكم ان تقوم الحكومة بصرف ثلاث شمعات لكل مواطن على البطاقة التموينية، هذا القرار سيجد صدى شعبي جارف. الرئيس (يهز رأسة موافقًا) قائلا: لا بأس ابلغ رئيس الوزراء ليقوم بالتنفيذ(!). ثم قال مدير المخابرات: على أيا حال.. انتظر معاليكم قليلًا، وستجد الجميع من كافة فئات المجتمع يهتفون لك تأييدًا لقراراتك الثورية. جرس الهاتف ينهي حالة الصمت التي سادت بين الطرفين لثوانِ معدودة، يسرع مدير المخابرات لبيان الأمر. يرد: تمام يا فندم، حالا وسوف يعلم الرئيس بالأمر. الرئيس ينظر باهتمام في اتجاة مدير المخابرات، وعلامات الاستفهام تتراقص أمام عينية. أغلق الهاتف وقال: نعم سيادتكم لقد انتشرت الجماهير في الميدان، تطالب بالكهرباء والخبز وفرص العمل. الرئيس: ماذا.. الكهرباء والخبز وفرص العمل، هل اصبحت الغالبية العظمى من الجماهير تبحث وتسعى وراء أهدافها الشخصية الزائلة، أنني اتخذت اليوم قرارات ثورية غير مسبوقة وكان على الجميع أن يدرك اهمية هذه القرارات، لعل المشكلة في الإعلام وما وراءه من برامج التوك شو..!!( يعبث الرئيس في ذقنه) ثم يقول: اذهب انت الآن وارسل لي في طلب مسؤول الإعلام، ثم حول نفسك للتحقيق، كيف لا تعلم أن الهم الأول للجماهير الآن هو الكهرباء، لقد اصبحت عاجزًا عن القيام بعملك تفضل.! ( مدير المخابرات يحاول شرح الموقف للرئيس دون جدوى ، بينما استمر الرئيس في الإشارة بيده للباب وهو يردد ..تفضل .. تفضل.) يخرج مدير المخابرات خارج مكتب الرئيس ، فيجد مدير المكتب والمتحدث الرسمي للرئاسة في الخارج، كل منهم يحاول قراءة ملامح وجه مدير المخابرات، والذي ظهرت عليه علامات الضيق والرفض لقرار الرئيس، لم يتحدث سوى بكلمة واحدة : يريد مسؤول الإعلام فورًا. الرئيس في غرفتة يسير في كل اتجاة بلا هدف، يحاول تفهم الأمر،ومعرفة الأسباب الحقيقة وراء عدم توافد الجماهير إليه، تأييد لقراراته غير المسبوقة، يدخل عليه مدير المكتب باسمًا وهو يقول: سيادة الرئيس لقد تم اليوم بفضل جهود رجال الجماعة القبض على أحد الإعلاميين المدعين الذي يؤكد أن ما حدث من تراجع في موارد الدولة وتدني حالة المرافق العامة من كهرباء وبنزين وسولار، وتراجع مستوى العملة المحلية، أمام البهوات الأخضر والبرتقالي، جعل فرص العمل غير متوفرة. الرئيس: ماذا تقول؟!.. هذه إدعاءات كاذبة.. أن جميع التقارير التي تأتي إليّ من الجماعة والحكومة، تؤكد أن مسيرة النهضة المباركة قد بدأت ، فلماذا يقول مثل هذه المغالطات. يرد مدير المكتب: المعارضة من أجل المعارضة سيدي. الرئيس: لقد كنت أنا نفسي من المعارضة، ولكن المعارضة الهادفة من أجل القضاء على الفساد والإستغلال. مدير المكتب: هذه هي طبائع البشر سيدي الرئيس..( دقات خفيفة على الباب تقطع الحديث).. يذهب مدير المكتب مسرعًا لبيان من الطارق، ثم يقول بصوت مسموع: إنه مسؤول الإعلام سيدي الرئيس.. يدخل مسؤول الإعلام المكتب، بينما يقوم مدير المكتب بالإمساك بالباب رغبة في الخروج وإغلاقة من الخارج.. الرئيس: قل لي ما يحدث، كيف لا تدرك الجماهير أهمية قراراتي التي اتخذتها اليوم، فلا أحد سوى القليل منهم بجوار القصر الجمهوري، بينما الغالبية العظمى منهم في الميدان يطالبون بالكهرباء والطاقة، أيهما أهم القرارات أم الكهرباء.؟!. مسؤول الإعلام: سيدي الرئيس أنت تعلم أننا نعمل على تطهير المؤسسات المختلفة من فلول النظام السابق، ونقوم في الوقت نفسه بإحلال الموالين لنا بدلا منهم، وبالتالي الأمر يحتاج بعضا من الوقت، كما أننا نقوم بإرغام رجال الأعمال بالعمل على رعاية الحملات الدعائية التي تؤكد بدء مسيرة النهضة المباركة، ونقوم في نفس الوقت بمتابعة تصريحات الوزراء؛ لأنهم يعانون من تدني مستوى الخبرة بمقتضيات الوظيفة العامة ، حيث لايدرك الكثيرين منهم الأسلوب الأمثل لإطلاق التصريحات وتجميلها بشكل ما. الرئيس: ولكن ما حدث يعني أن عملكم يفتقر إلى الدقة، بدليل أن الجماهير انصرفت عني وهي الآن في الميدان تطالب بنفس المطالب القديمة التي خلعت بمقتضاها من قبلي. مسؤول الإعلام: لا.. لا سيدي الرئيس هناك فرق، انت الأول الذي يختاره الجميع، ولهذا شرعيتك أقوى، كما اننا نعمل للصالح العام، من خلال تمكين رجالنا من الجماعة لتطبيق افكارنا التي نؤمن بها منذ ثمانين عامًا، وهي الأفكار التي ستجعل مستقبل البلاد افضل بلا شك. الرئيس: معك حق ..ولكن كيف سنتعامل مع الجماهير وعدم قدرتنا على إدارة البلاد وتوفير ما يريدونه من سلع وخدمات، لابد من دراسة الأمر مع الجماعة والحكومة وابلاغي لإتخاذ القرار. مسؤول الإعلام.. الأمر هين سيادة الرئيس، نحتاج بعض الوقت للتمكين ثم الانطلاق، وسوف نؤكد للجميع أن المسيرة مستمرة والرخاء قادم . الرئيس: لا.. لا.. لابد من الاستفادة مما سبق، أذهب الآن إلى السجن واحضر لي الكبير من هناك وأحرص على أن يظل الأمر في طي الكتمان، لدى سؤال أرغب في طرحه عليه. مسؤول الإعلام ( مندهشا): ماذا؟!، أنا لا استطيع سيدي الرئيس القيام بهذه المهمة؟.. أنا مسؤول الكلام وتجميل الصورة فقط، أنا..... الرئيس: كفى.. ثم يرفع سماعة الهاتف محدثًا طرفًا آخر غير معلوم..يقول له: اذهب واجعله بين يدي بعد نصف ساعة،.. لا.. وحده لا أرغب في زيارة ابنيه،.. شكرًا.. إنني انتظر.!!. يشير إلى مسؤول الإعلام قائلًا:بعد انتهاء ما يحدث سوف أقوم بإتخاذ الإجراءات الثورية الملائمة تجاه ما يحدث في الإعلام.. ثم يشير له ليخرج من الرغفة مسرعًا. في خارج المكتب يقف مدير المكتب متابعًا مسؤول الإعلام، والذي لم يذكر سوى عبارة واحدة: نهار اسود.. ماذا سيفعل معي..!! مدير المكتب يفتح الباب خلسة على الرئيس، والذي كان منهمكًا في متابعة ما يجري في الميدان العتيق، نفس الجماهير ونفس العبارات " ارحل.. ارحل"، أين الكهرباء والمياه والوظائف وضبط الأسعار.. المذيع في التلفاز يقول: لقد تناسى الجميع اليوم القرارات الثورية التي اتخذها الرئيس، ويطالبون بالحياة التي حرموا منها.. الجميع يقول إنه يفتقد بلاده رمز الأمن والأمان، يفتقد العمل، والانتماء، يعيش في ظلام ودون مياه، الغالبية العظمى يطالبون الرئيس بالحل أو الرحيل..! أجواء الهرج والهمهة تنتشر بين طرقات القصر، لقد جاء الكبير على كرسيه المتحرك.. يغلق مدير المكتب الباب مسرعًا وهو يتابع الموقف حوله، مطالبًا الجميع بالهدوء انتظارًا لما سيحدث..!! طرقات خفيفة على الباب.. الرئيس من الداخل.. تفضل، الكبير يدخل على الكرسي المتحرك، ومن خلفه مدير المخابرات يقول للرئيس: تمام يا فندم .. المسجون الآن معك وفي سرية تامة. الرئيس: أهلا بك في مكتبك السابق، لعلك الآن تعلمت الدرس، وتدرك أن هذه الجماهير تعي جيدًا حقوقها ولديها من القوة للقضاء على قوتك وسلطانك الزائف لتقضي ماتبق من حياتك هكذا..( يشير إليه بأصبعة ووجهه ارتسمت عليه علامات السخرية). الكبير: (مبتسمًا) وهل تعلمت أنت الدرس؟!. الرئيس: نعم .. بطبيعة الحال. الكبير: أشك بدليل ما يحدث في الميدان الآن. الرئيس: هاها .. باطل.. ما تقوله عار تمامًا عن الصحة.. الامر لا يعدو أن يكون بعضًا من المطالب الفئوية التي تسببت أنت فيها بفساد نظام حكمك مما اصاب البلاد بحالة قصور في جميع الخدمات والمرافق.. الكبير: على مهلك قليلاً.. إن هذه الجماهير ترغب في قضاء حاجاتها الأساسية من طعام وشراب وكهرباء، وفرص عمل، وفي آخر الليل النوم في احضان زوجاتهم وقضاء لحظات من المتعة، ثم استكمال مسيرة الحياة.. الرئيس: إذا كنت تعلم ذلك، لماذا قامت الجماهير بالقضاء على نظام حكمك، ومحاكمتك أمام القضاء.. الكبير: لكل منا اخطائه، ولكن من العيب المكابرة.. لقد قررت التنحى بعدما وجدت انه لا سبيل امامي سوى القيام بهذا القرار. الرئيس: أنت تعلم انك كنت تحكم بشرعية زائفة ، أما أنا فأنا الشرعية والشرعية أنا...! الكبير ( باسمًا) : ألم اقل لك أنك لم تتعلم الدرس حتى الأن ، هؤلاء هم جماهير الشعب يا .... الرئيس (بصوت حاد مرتفع) : توقف ... الكبير: ما الذي تريده مني بالضبط. الرئيس (وقد عدل من نبره صوته الحادة) : الواقع معي مختلف ، أنت تركت الجميع يفعل ما يريد، بينما انا أتابع وأعمل والجماعة معي..! الكبير ( مقاطعًا بسخرية) : الجماعة معك(!!)، المشكلة الآن أنك تنكر الواقع ، لقد خرجت الجماهير، ولن تهدأ ثائرتهم إلا مع نيل ما يرغبون فيه من حقوق، إذا كنت تقول انني تركت من يفعل يفعل ما يريد، وانت كذلك كان اهتمامك بالأهل والعشيرة وتركت لهم البلاد ليسيطروا عليها.. الرئيس: كفى .. ما تقوله غير صحيح. الكبير: قل لي ما تريد ..لا أرغب في الحديث في أمور أنت تعلمها وتنكرها حتى على نفسك. الرئيس: النصيحة. الكبير: أي نصيحة.. ومني أنا.. الرئيس: نعم.. ارغب في استعادة الاستقرار والهدوء في البلاد. الكبير: نصيحتي لك سيطر على العقول والبطون وكفى. الرئيس: فهمت .. صوت المذيع في التلفاز يؤكد من بعيد : المطالبين برحيل الرئيس ينتشرون في جميع الميادين.. المتظاهرين يطالبون الجيش بالتدخل، واجتماع مغلق لقادة الجيش لدراسة الموقف .. شن هجوم على مقار جماعة الرئيس في شتى أنحاء البلاد.. حرق عدد كبير من مقار حزب الجماعة.. الكبير باسمًا: انتظر لقاءك قريبا في مكان آخر..!! الرئيس: كفى .. أنا الشرعية لن أتنازل عن الحكم ولو بالدم. الكبير (مغادرًا وهو يردد في سخرية واضحة) : ألم أقل لك إنك لم تفهم الدرس جيدًا..!!