ديباجة مشروع الدستور الجديد فريدة من نوعها، ليس لأنها طويلة كما يظن البعض، فديباجة دستور 2012 كانت أكثر طولاً منها، ولكن لما احتوته من تلخيص لتاريخ مصر؛ يبدأ بحضارة الفراعنة المصرية القديمة وصولاً إلى الثلاثين من يونيو. هذا السرد التاريخى المختصر ينطوى على رؤية محددة للتاريخ المصرى وللهوية الوطنية المصرية، ففى التاريخ تتكون الهوية الوطنية، والروايات المختلفة للتاريخ تنتج تعريفات مختلفة للهوية. وفى لحظة تنقسم فيها النخب وتتصارع على هوية الدولة والأمة، كان من الضرورى لكاتبى مسودة الدستور تثبيت رؤيتهم لهوية الوطن فى الدستور. ديباجة الدستور تسرد تاريخ الوطن انطلاقاً من مبدأ «وحدة التاريخ المصرى»، بما فى ذلك من مراحل متعاقبة كان فيها الصراع والتناقض والغلبة بين قوى الحقب المتلاحقة هو السائد. القول بوحدة التاريخ الوطنى لا ينفى الصراعات التى حدثت فى حقب سابقة، ولكن بعد كل هذه القرون فإن المؤمنين بالوطنية المصرية يرون أن كل هذه الصراعات أنتجت هوية وطنية منسجمة أسهمت الحقب المتعاقبة فى صنع مزيجها الفريد. الرواية الوطنية للتاريخ المصرى ترفض أن يبقى الوطن المصرى المعاصر مرهوناً لصراعات كان لها منطقها فى زمانها، ولكنها فقدت كل منطق بعد مرور القرون والعقود، وبعد أن نجح النسيج الاجتماعى للشعب المصرى فى هضمها ومزجها فى سبيكة الهوية الوطنية المصرية الواحدة. رواية التاريخ المصرى كما وردت فى مقدمة مشروع الدستور هى النقيض لرواية الإخوان ومن والاهم. العقيدة السياسية للإخوان لا تتيح فى أفكارهم مكاناً للتاريخ المصرى، فمصر فى عقيدة الإخوان ليست وحدة قائمة بذاتها لها طبيعتها وظروفها وتاريخها الخاص بها، ولكنها مجرد مِصْرٍ من الأمصار، وولاية من ولايات الخلافة الإسلامية، وتاريخها هو مجرد جزء صغير من تاريخ الفتوحات ودول الخلافة المتعاقبة، وهو تاريخ لا يقوم بذاته ولا يستقل بها، حتى إنك لن تجد مؤلفاً إخوانياً فى تاريخ مصر، وإن كتب الإخوان كثيراً عن معارك وصراعات خاضوها على أرض مصر، خاصة صراعاتهم مع نظام الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، أما إذا حاولت لملمة الرواية الإخوانية للتاريخ المصرى من أفكارهم وكتبهم المتنوعة، فستجد تاريخاً يتكون من حقب ينفى بعضها البعض؛ فالحقبة المسيحية أجهزت على الحقبة الفرعونية، والحقبة الإسلامية قضت على الحقبة المسيحية. فكل ما كان قبل الإسلام لم يكن سوى جاهلية ليس لها من شرعية للبقاء، ولأنه ما زال فى مصر بقايا للحقبتين الفرعونية والمسيحية، فذلك لأن الحقبة الإسلامية لم تستكمل الإجهاز عليها بعد، وهى المهمة التى سيكون على الإسلاميين المعاصرين استكمالها. ضرورات المواءمة فرضت على الإخوان ادعاء القبول بما يرونه باقياً من مصر الفرعونية والمسيحية، فلا بأس من بعض الآثار التى يدفع خواجات مهووسون المال لزيارتها، أو من أقلية مسيحية تدير شئونها الخاصة فى عزلة. لكن الشىء الذى لا يسامح فيه الإخوان أبداً هو تلك الحقبة الحديثة التى بدأت قبل قرنين من الزمان مع صعود نجم محمد على باشا فى مصر، فبينما يعد محمد على فى نظر الغالبية من المصريين مؤسس مصر الحديثة التى تهيأت، لولا خطايا الحكام وصراعات النخب ومؤامرات الأعداء، للانطلاق نحو مصافّ العالم الأول الأكثر تقدماً - فإن الرواية الإخوانية للتاريخ المصرى لا ترى فى المائتى عام الأخيرة سوى تمرد على دولة الخلافة فى تركيا، وفتحٍ للأبواب للأفكار الحديثة القادمة من الغرب، التى لا يرى فيها الإخوان إلا تهديداً لعقيدتهم. ولن تجد إخوانياً واحداً كتب كتاباً ينصف فيه محمد على باشا، أو يحتفى فيه لأى من الإنجازات وأوجه التقدم التى حققتها مصر طوال القرنين الأخيرين، أو يقدر فيه أياً من رموز العلم والفكر والسياسة والثقافة والفن والأدب الذين زخر بهم القرنان الماضيان، هوية مصر كانت وما زالت قضية الخلاف الكبرى التى تنقسم حولها النخب السياسية والأيديولوجية المصرية، رغم الادعاء أحياناً بغير ذلك، ولهذا كانت هذه الديباجة التى اشتمل عليها مشروع الدستور الجديد. فديباجة الدستور تعرض الرواية التى اتفق عليها كاتبو الدستور لتاريخ وهوية هذا البلد. ومع أن الجدل والتفسير ينصرف عادة إلى مواد الدستور التى ستنظم جوانب عدة من حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية - فإن ما ورد فى الديباجة ينطوى على أهمية كبيرة، لما فيه من معانٍ أساسية يصعب أن تجد لنفسها مكاناً فى مواد الدستور الأخرى. فديباجة الدستور بتلك القراءة التى قدمتها للتاريخ المصرى تعيِّن حدود المجتمع السياسى المصرى لتشمل كل من أسهم فى بناء الوطنية المصرية والوطن المصرى خلال القرنين الأخيرين، كل هذه التيارات نمت وازدهرت تحت مظلة الوطنية المصرية الجامعة، ولهذا جمعها الدستور معاً فى ديباجته. وبينما رأى البعض فى هذا المزيج الفريد تناقضات استعصى عليه فهمها؛ بين ثورة 1919 وحزب الوفد وثورة 23 يوليو والناصرية، وبين جمال عبدالناصر وأنور السادات - فإن ما اعتبره هذا البعض جمعاً بين متناقضات ليس سوى دليل على تعددية مصادر الهوية الوطنية المصرية، لقد فتح الخامس والعشرون من يناير آفاقاً جديدة أمام هذا الوطن، لكنه أيضاً وضع هويته الوطنية أمام أكبر تحدٍّ واجهها خلال القرنين الماضيين، وما الثلاثين من يونيو سوى ثورة الوطنية المصرية ضد خصومها الأيديولوجيين، وما كان للدستور أن يتجاهل هذه الحقيقة.