تبني الجماعات الإنسانية هويتها المتخيلة في الغالب اعتماداً علي معطيات الواقع المرتبطة بالجغرافيا والتاريخ مع قليل من المجاز والرموز الشاعرية والثقافية، وفي هذا المقام تعبر الهوية الجمعية عن نفسها من خلال مجموعة من المنتجات الثقافية تبدأ من العلم والنشيد وحتي الأغاني الوطنية و"المارشات" العسكرية.طبعا ليس هناك صورة واحدة، فالمجتمعات الحديثة تقوم علي التنوع والتعدد، وتمتلك كل جماعة تصوراتها الخاصة عن هويتها الوطنية، وبينما في الدول الديمقراطية تجد كل تلك الصور متنفساً لها في الخطاب الرسمي، فالدول الشمولية لا تسمح بهذا التنوع أو تترك له مجالاً، بل تقدم ديباجة لدستور مثل تلك التي صاغها ابن المشروع الشمولي الستيني سيد حجاب وزملاؤه من كتاب الدولة المركزية في لجنة الدستور. علي ما يبدو لم يفرق كتاب ديباجة الدستور بين الأغاني الوطنية التي اعتادوا كتابتها في "الأوبريتات" العسكرية، وبين ديباجة دستور تعبر عن شعب أكثر تنوعاً لا يمكن اختصاره في عبارة "نحن نكتب دستور مصر". ولهذا جاء نص الديباجة كموضوع تعبير لطالب إعدادي يرغب في إرضاء مدرس محدود المعرفة لنيل الدرجة النهائية في موضوع تعبير. يبدأ الدستور العظيم بجملة عظيمة "هذا دستورنا". من هم؟ إنهم لجنة الخمسين المعينة والذين تم اختيارهم في تشكيلة تعبر عن عودة الروح إلي جثث زومبي الستينات، هراء الناصرية مع مزيج الدولة القومية ذات السيادة. هذا دستورهم، وبلا حياء يبدأ بعبارة لمؤرخ إغريقي "مصر هبة النيل". من الجملة الأولي يصنع حجاب للكيتش معبدا في ديباجة الدستور ويفتتحه بأكثر عبارات الكيتش الوطني المصري الخالية من المعني. ليس هذا فقط، بل مصر أيضاً هي "هبة المصريين للإنسانية"، وهي العبارة الأغرب والأكثر إثارة للدهشة، فبقليل من التأمل فيها نري أن المعني أن النيل وهب مصر، والمصريين وهبوا مصر للإنسانية، ليصبح السؤال، أين هي السنيورة »مصر« إذن؟. تأتينا الإجابة من الجغرافيا، فمصر عربية تقع في إفريقيا ومفترق طرق مواصلاته البحرية واتصالاته، ومن الجغرافيا ينقلنا كاتب ديباجة الدستور العظيم إلي التاريخ، وعلي مدي صفحة يستعرض ما يظن أنه تاريخ مصر بشكل ينافي كل الدراسات التاريخية المعروفة فالتاريخ الذي تقدمه ديباجة الدستور، يبدأ من لحظة تجلي فيها ما يصفه كاتب التاريخ بأنه ضمير الإنسانية، وهذا الضمير جعل مجموعات من الصيادين والمزارعين يتحولون فجأة إلي مشرعين أسسوا بشكل جماعي دولة مركزية برضاهم، طبعا لا يهم في هذا المقام لوحة "مينا نارمر" الشهيرة والتي تظهر مؤسس الدولة المركزية معاقباً ومنكلاً بالمتمردين، وعلي الرغم من أننا لا نجد في التاريخ المصري القديم أي مبادرة لشكل من اشكال الحكم الجمهوري أو الديمقراطي عكس الحضارات الاغريقية، لكن كاتب الديباجة يؤكد أن الإرادة الخيرية للأجداد هي التي قادتهم إلي الدولة المركزية، لا اعتبارات الجغرافيا، أو الديانات القديمة التي جعلت من الحاكم الفرعون الإله. تختار الديباجة من التاريخ ما تراه متمشياً مع ذائقة وخيال كاتبها، فموسي كليم الله، الذي نجي من الموت صغيراً في مصر وهرب بعد ذلك بقومه اليهود حسب الروايات الدينية- بسبب خلاف علي حرية العقيدة يدين بالفضل لمصر أيضاً، كاتب الديباجة أيضاً يحدثنا عن كليم الله، لكنه لا يذكر اسم موسي ولا يذكر الديانة اليهودية ولا المسيحية، بل صور شعرية غاية في التسطيح تنتهي بأن صدر المصريين انفتح للإسلام "فكنا خير أجناد الأرض جهادا في سبيل الله" أحاول مثلا تخيل الترجمة الإنجليزية للفقرة السابقة وأكاد أتخيل كيف أن أي قارئ غربي سيؤكد علي الجملة السابقة بالذات خصوصاً وهو يشاهد المجاهدين المصريين يفجرون مبني التجارة العالمي ويقود»أيمن« المصري أهم منظمة جهادية إرهابية عالمية، فللمصريين أياد بيضاء خصوصاً في العقود الأخيرة في مجال تصنيع وتصدير الإرهاب تحت مسمي الجهاد إلي كل دول العالم، والإنسانية. يستمر التلفيق التاريخي ورص العبارات الاكليشيه حتي نصل إلي التاريخ الحديث، لنجد الديباجة تقدم لنا مجموعة من الأحكام القطعية لتنهي بذلك الجدل الدائر حول عشرات النقاط والمسائل في التاريخ الحديث؛ فمحمد علي هو باني مصر الحديثة، وثورة 25 يناير هي انتصار للجيش الوطني فات علي كاتب الديباجة شكر الشرطة علي مساهماتهم في الثورة- وسعد زغلول ومصطفي النحاس هما مؤسسا الديمقراطية، وطلعت حرب هو من وضع حجر الاقتصاد الوطني، أما بقية الأسماء والشخصيات من خارج تلك التركيبة فلا مجال لهم في ديباجة الدستور ولا التاريخ الرسمي.
تؤكد الديباجة أيضاً أن جمال عبد الناصر هو الزعيم الخالد، ولا نعرف هل تخليد عبد الناصر في دستور عام 2013 يعني التزام الدولة بتخليد الزعيم علي طريقة تخليد كوريا الشمالية لزعيمها الخالد "كيم إل سونج"، أم أنه نوع من الهري وطحن الهواء علي طريقة مصر هبة المصريين للإنسانية. لكن تستمر فقرة إلقاء التحيات والمساء في الديباجة من أحمد عرابي ومصطفي كامل لا يوجد توضيح هل المقصود السياسي أم المغني- والزعيم الخالد حتي السادات صاحب نصر أكتوبر المجيد، ولا نعرف لماذا لم يقدم كاتب الديباجة التحية أيضاً لحسني مبارك قائد العبور الثاني، ومؤسس مصطلح "الاستكرار". إلي جانب التفصيل، فلا الفلسفة التي اعتمدت في كتابة النص جعلته مبهماً وغريباً كأنه نص ولا نص، فالدستور وديباجته هي أسس تنظم العلاقات والقوانين داخل المجتمع ولذا فالوضوح والصراحة والدقة اللفظية سمات أساسية بدونها يفقد النص الغرض العمل من كتابته وكتّاب الديباجة نجحوا في ذلك عبر تحويل الهراء إلي زجاجات معبأة، فهو يقدم هذا الاستعراض التاريخي، دون أن يذكر صراحة الحضارة الفرعونية أو القبطية أو الهيلينية وغيرها من روافد تشكل ضفيرة التاريخ المصري. المدهش أكثر أن الديباجة لا تقدم فقط تصورات عن الماضي،بل الحاضر أيضاً حينما يقول "وتأمل الإنسانية أن تنتقل من عصر الرشد إلي عصر الحكمة، لنبني عالماً إنسانياً جديداً تسوده الحقيقة والعدل، وتصان فيه الحريات وحقوق الإنسان، ونحن المصريين نري في ثورتنا »عودة لإسهامنا في كتابة تاريخ جديد للإنسانية". تأمل الحكمة حينما تختلط ببلاهة البرامج التليفزيونية، الكاتب لا يكتفي بالتحدث باسم المصريين، بل باسم الإنسانية جمعاء، ويراها لم تبلغ عصر الرشد، من أين تنبع هذه المعرفة؟ ما هو عمر الإنسانية؟ إذا كنا نعيش في عصر رشد الإنسانية، فمتي كان كان عصر مراهقة الإنسانية؟ أسئلة عميقة تفتحها هذه الفقرة الفلسفية، متي توقف المصريون عن الاسهام في كتابة تاريخ الإنسانية؟ ومتي يعودون؟ وفي هذه الفترة ما التاريخ الذي كان يكتبه المصريون؟ هل هو تاريخ منفصل عن باقي تاريخ الإنسانية؟ والأهم لماذا نعود كمصريين إلي موضوع كتابة تاريخ الإنسانية؟ هل فيه مصلحة ولا مروحة؟.
بعد هذا الفاصل التاريخي تعود الديباجة إلي أسلوب مطاحن الهوي، وبين كل هذي وهذي آخر يتحفنا سيد حجاب بواحدة من عباراته الشعرية الخفيفة والطريفة القائمة علي الزخارف اللفظية والسجع والجناس كأن يقول "هذه الثورة إشارة وبشارة". ثم يتذكر أنه يكتب دستوراً لا أغنية لمسلسل تليفزيوني، فينهي الديباجة بعدد من الجمل يقرر فيه الشاعر المعين من قبل السلطة العسكرية أن يتحدث باسم كل المصريين، ليوضح لنا ما هو الدستور الذي يكتبه لنا. يرتب كاتب الديباجة الأولويات التي من أجلها يكتب هذا الدستور وهي بالترتيب؛ حق المواطن في الأمن والأمان، السيادة في وطن سيد، دولة عادلة تحقق طموحات اليوم والغد، دولة ديمقراطية حكومتها مدنية، نعالج جراح الماضي من زمن الفلاح الفصيح ومسلسل الشهد والدموع، مباديء الشريعة التي تحددها المحكمة الدستورية مصدراً للتشريع، يتسق مع الإعلان العالمي للحقوق الانسان، طبعا فرق كبير بين الاتساق والالتزام، ويختم هذه الفقرة مؤكداً "نحن الشعب المصري السيد في الوطن السيد". ولا كلمة عن الحرية، الهتاف الأول من 2005 حتي الآن، ولا كلمة عن حقوق الأقليات العرقية والدينية المكونة للنسيج المركب لسكان هذه البلاد، ولا كلمة عن الحق في حياة كريمة بلا تعذيب قبل الأمن والأمان، ولا كلمة عن العدالة والحق في المحاكمة أمام قاض طبيعي وليس قاض عسكري، ولا كلمة عن الحق في حرية الاعتقاد والتعبير... ببساطة لأن هذا ليس دستورنا، بل دستورهم أهل الأمن والأمان والسادة في الوطن السيد.