بعد مرور عامين على إجبار حسنى مبارك على التخلى عن الحكم، ومع إقرار دستور جديد للبلاد أصبح من الممكن بل من الضرورى تقييم النتائج السياسية التى أنتجتها انتفاضة 25 يناير حتى الآن، بغض النظر عن أمانى البعض المعلقة بالموجة الثانية من «الثورة»، وإذا وضعنا جانبا حديث الأمانى والمحاولات المحمومة من مختلف القوى السياسية لتصوير اعتصام التحرير الذى لم يتجاوز الثلاثة أسابيع كبداية التاريخ فى مصر (وهى فكرة لا تقل عبثية عن أطروحة فوكوياما عن نهاية التاريخ) وركزنا جهودنا على تحليل ما تحقق فعليا على أرض الواقع حتى الآن، ووضعه فى سياق التاريخ المصرى الحديث والمعاصر، فإنه يمكن القول إن هذه الانتفاضة وبغض النظر عن نوايا المشاركين فيها وتضحياتهم النبيلة قد مهدت الطريق لصعود الموجة الثانية للثورة المضادة، التى دشنها السادات فى سبعينيات القرن الماضى وعمقها مبارك. ولم تكن سياسات السادات انقلابا فقط على نهج ثورة يوليو وزعيمها، بل مثلت أيضا تخليا عن عدد من ثوابت الحركة الوطنية منذ القرن التاسع عشر، وكذلك هدم لإنجازاتها وفى مقدمتها فكرة الجماعة الوطنية والدولة الوطنية ذات الإرادة المستقلة والاقتصاد غير التابع. فالثورات الثلاث التى شهدتها مصر فى القرنين التاسع عشر والعشرين تكاملت وتراكمت خطواتها لتنتج مصر الحديثة، فالثورة العرابية على الرغم من هزيمتها فإنها رسخت فكرة مصر للمصريين لا للأجانب سواء الأوروبيين أو الأتراك، وإذا كانت الثورة العرابية لم تتمكن سوى من رفع الشعار فإن الحركة الفكرية والسياسية فى العقود الأولى للاحتلال البريطانى تمكنت من إعطائه مضمونا حقيقيا، وكان شعار ثورة 1919 يحيا الهلال مع الصليب أكثر التعبيرات السياسية والشعبية وضوحا عن هذا المضمون، وعلى الرغم من إخفاق الأحزاب التى تداولت السلطة ما بين 1924 و1952 فى تحقيق الاستقلال الاقتصادى الذى بشر به طلعت حرب أو بناء دولة ذات سيادة أو القضاء على آخر مخلفات العصر التركى، ممثلا فى الملكية أو على ثالوث الفقر والجهل والمرض، الذى فتك بالغالبية الساحقة من الشعب، فإن هذا لا يقلل من أهمية ما تم إنجازه من تكريس لفكرة الجماعة الوطنية على حساب الهويات الدينية المختلفة، حتى مع ما اعترى تطبيق الفكرة على أرض الواقع من عوار نتيجة هيمنة أبناء ديانة بعينها على الحياة السياسية، وجاءت كبرى الثورات المصرية فى يوليو 1952 لتحقق الكثير مما أخفقت فيه الثورتان السابقتان عليها وتوثق وشائج العلاقات بين أعضاء الجماعة الوطنية من خلال سياسات اقتصادية واجتماعية أدت إلى تقليل الفجوات بين الطبقات وإطلاق أكبر عملية حراك اجتماعى فى تاريخ مصر الحديث، التى زادت من حجم الطبقة الوسطى ومكنت الكثير من أبناء الفلاحين والعمال من الانضمام إلى صفوفها، كما أسست الثورة دولة وطنية فاعلة ليس فقط فى الوطن العربى، بل أيضا فى العالم الثالث والساحة الدولية بأكملها. وقد ظهرت فاعلية الدولة والمجتمع اللذين بنتهما الثورة فى أحلك لحظات النظام الناصرى فى أعقاب هزيمة 1967، بما مكن عبد الناصر ليس فقط من إعادة بناء الجيش وشن حرب الاستنزاف، بل أيضا استكمال بناء السد العالى والاستمرار فى سياسة الإصلاح الزراعى وغيرها من السياسات الاجتماعية المنحازة إلى فقراء الوطن وطبقته الوسطى. ومع صمت المدافع فى سيناء بدأ السادات مسيرة المفاوضات/التنازلات مع الصهاينة، التى واكبتها داخليا عملية هجوم منظم على مفهوم الجماعة الوطنية بلغ ذروته فى إعلان السادات نفسه رئيسا مسلما لدولة مسلمة، مقصيا بذلك مسيحيى الوطن ومحولهم إلى رعية لا مواطنين، والأخطر أن السادات أطلق العنان للتيار الإسلامى للعمل «الدعوى» فى المجتمع وفى الإعلام وفى الوقت ذاته اضطهد وطارد التيارات الأخرى التى اضطر العديد من رموزها ومفكريها إلى مغادرة مصر، وهى أمور أدت إلى إحياء الصراع الطائفى فى البلاد وبروز الهويات الدينية المتعارضة والإقصائية كبديل للهوية الوطنية الجامعة، وعلى الرغم من أن مبارك كان قد دخل فى مواجهة عنيفة فى تسعينيات القرن الماضى مع الجماعات الإسلامية الإرهابية انتهت بسحق الأخيرة، فإن العديد من سياساته ساعدت الجماعات الإسلامية غير المسلحة على زيادة اختراقها للمجتمع خصوصا سياسات التكيف الهيكلى التى أدت إلى انسحاب الدولة من مجالات اجتماعية واقتصادية عديدة، تاركة خلفها فراغا ملأته تلك الجماعات ليس فقط بمستوصفاتها الطبية ومدارسها، بل أيضا بأطروحاتها عن الهوية «الحقيقية» لمصر وشعبها. ومنح سقوط مبارك وتشتت القوى السياسية غير الدينية فرصة ذهبية للتيار الإسلامى لتحويل رؤيته -التى تناقضت مع مشروع الحركة الوطنية منذ عشرينيات القرن الماضى- إلى واقع على الأرض. وقد أخذت محاولات التيار الإسلامى فى البداية شكل الشحن الطائفى من خلال هجمات على المواطنين المصريين المسيحيين وأملاكهم ومحاولة تصويرهم كالمستفيدين الرئيسيين من عهد مبارك على حساب المسلمين، واتهامهم بالوقوف ضد «الثورة» وتقديم الأخيرة على أنها ثورة إسلامية، ولكن الإنجاز الأكبر للإسلاميين كان إقرار دستور يعيد صياغة هوية الشعب على أساس دينى ويضع حجر الأساس لدولة دينية على الرغم من محاولات الديباجة خلق استمرارية ما بين تراث الحركة الوطنية المصرية والدستور الجديد. فالنص فى المادة الأولى على أن الشعب المصرى جزء من الأمة الإسلامية يقصى المصريين من غير المسلمين أو يفرض عليهم هوية دينية لم يختاروها، أما المادة الثالثة فتؤكد إقصاء المصريين من غير أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، كما تؤسس لوضع المصريين المسيحيين واليهود كطائفتين دينيتين، والأخطر أنها تفتح الباب لتطبيق الحدود المذكورة فى القرآن الكريم -إذا ما قررت حكومة إسلامية استبدالها بالعقوبات الحالية فى القانون- على غير المسلمين حيث إن تطبيق الشرائع المسيحية واليهودية يقتصر فقط على الأحوال الشخصية والدينية واختيار ما أطلقت عليه القيادات الروحية، وهو مثال آخر على محاولة فرض هوية ومفاهيم وقواعد إسلامية على المصريين غير المسلمين، إضافة إلى ذلك فإنه عوضا عن أن يخلو الدستور الجديد من المادة الثانية من دستور 1971 التى كانت تمثل دائما نواة محتملة للدولة الدينية (إلغاء هذه المادة لا يعنى حرمان أى قوى سياسية من اقتراح تشريعات تعكس مبادئ الإسلام) فإنه قطع خطوات جديدة وواسعة فى اتجاه تأسيس هذه الدولة إن لم يكن الدولة المذهبية من خلال إشراك الأزهر الشريف فى العملية التشريعية وقصر الشريعة على فهم أهل السنة والجماعة لها، وبذلك يكون الدستور الجديد الذى وصفته الديباجة ب«وثيقة ثورة الخامس والعشرين من يناير» قد أطاح بأبرز ثمار كفاح الحركة الوطنية المصرية خلال القرنين الماضيين: الجماعة الوطنية والدولة المعبرة عنها، وهو ما يمكن أن يؤدى إلى نتائج وخيمة تتجاوز آثارها الكارثية التبعية الاقتصادية وانهيار مؤسسات الدولة اللذين أنتجتهما الموجة الأولى من الثورة المضادة. ولكن هل كان صعود الإسلاميين حتميا؟ وهل الخروج من التاريخ قدر لا مفر منه؟