فى شوارع منطقة الحسين، تتعانق التماثيل ذات الطراز الفرعونى مع الحلى الذهبية فى محال المجوهرات، الحى السياحى العتيق يحتضن بداخله «الصاغة» أو كما كان يطلق عليها فى الماضى «وكالة الجواهرجية»، وتضم بين جنباتها عشرات الورش التى تعمل فى صياغة الذهب والفضة، المكان هنا أشبه بمنجم به عشرات الكيلوجرامات من المعدن الأصفر الأثير، لذا كان المكان مطمعاً للصوص وقت ذروة الانفلات الأمنى، وبعد أن كان أصحاب محلات الذهب يعرضون ما لديهم من حلى ذهبية فى «الفاترينات الزجاجية»، أصبح أمامها حوائل حديدية، وانتشرت البوابات الحديدية بالمكان، يقول «كرم» صاحب إحدى ورش الذهب فى الصاغة: «الانفلات الأمنى الموجود دلوقتى خلى كل جواهرجى عينه فى راسه». منذ ما يزيد على العشرين سنة وسبائك الذهب مختلفة الأحجام والأوزان لا تفارق يد «كرم غريب»، طيلة هذه المدة عمل الرجل صاحب ال37 سنة فى مهنة صياغة الذهب، منذ كان فى الصف الخامس الابتدائى، وقتها اعتاد الذهاب للصاغة، حتى يعمل صبياً فى ورشة من الورش الكبيرة، كان يحضر أكلاً للأسطوات، ثم بدأ بعدة جرامات فضة، يسبكها ويتعلم فيها.. يعمل «دبلة» أو «حمصة» لحد ما بدأ يتعلم، وأصبح أسطى وله ورشته الخاصة. أسلوب يدوى قد يكون فى رأى البعض قديماً بعض الشىء، وأكل عليه الدهر وشرب، إلا أنها حرفة لا تضاهيها حرفة فى الحرص على كل ما يتساقط من المادة المستخدمة، ذرة الذهب لها قيمة لا يمكن التهاون أو التفريط فيها، تلين قطع الذهب فى يدى «كرم» حتى تصير سائلاً داخل البوتقة الصغيرة المعرضة لحرارة تتجاوز الألف درجة مئوية درجة انصهار الذهب، يقف «كرم غريب» صائغ الذهب، أمام موقد النار فى أولى خطوات سبك الحلى الذهبية، وحرارة غرفة السبك تزداد تدريجياً، ويقول: «المفروض إن البوتقة دى يتصهر فيها الذهب لحد ما يسيح، وبيكون فيها مادة اسمها الدنكار بتساعد على تسييح الذهب، قبل صبه فى القالب»، مشيراً إلى بوتقة من حديد يصهر فيها الذهب. انتهى «كرم» من تليين الذهب، صارت قطعة الذهب أشبه بماء يميل للحمرة من كثرة ما تشبع به من الحرارة، ثم يبدأ بسحبه أو صبه فى قوالب لعمل أشكال مختلفة أحياناً يقاوم الذهب، ويأبى أن يُسحب بسهولة، يفقد ليونته التى أكسبته النار إياها، فلا يجد «كرم» بُداً من إعادة تسخينه ثانية، وتشميعه كى يلين له. يذكر محمد حسين (35 سنة)، شريك «كرم» فى ورشة الذهب، ما آلت إليه أسعار الذهب عما كانت عليه وقت أن دخل المهنة: «من عشرين سنة، وقتها كان جرام الدهب فى الأرض، لما كان يجيب 50 جنيه، كنا نقول الدهب غلى، دلوقتى جرام الدهب عيار 21 بيلعب فى 270 جنيه، الناس طبعاً بطلوا يشتروا دهب كتير بسبب سعره العالى، ودى أكبر مشكلة فى مهنة الدهب دلوقتى». بين حين وآخر ينقطع التيار الكهربائى، فيضطر الشريكان «محمد حسين وكرم غريب» للتوقف عن العمل حتى لا يفسدا ما وصلا إليه من خطوات صياغة الحلى الذهبية، التى يشكلانها، يقول حسين: «الكهربا اليومين دول بتقطع باستمرار، ممكن تغيب بالساعات، طبعاً مينفعش نكمل شغل والنور قاطع، ومينفعش نشتغل على نور قليل ميظهرش الشغل كويس، وإلا كل اللى بنعمله يبوظ ونضطر نعمله من الأول». يقوم كرم ب «جلخ» ما صبه من ذهب، الهدف من عملية الجلخ، كما يقول صائغ الذهب، أنه «بيزيح عن الدهب المصبوب مادة الدنكار، فبتبقى صفرا بتلمع، وبيروح عن حتة الدهب أى بهتان أو بياض أو غيره، الجلخ بيخلى الدهب جاهز لأنه يتطعم بأحجار كريمة، أو ألماظ، أو غيره». صائغ الذهب لا بد أن يراعى ما يتساقط منه من برادة ذهب أو كما يسميها أهل المهنة «الخسية»، وهى الفاقد من جرامات الذهب عند صياغتها، يقول كرم «خسية الدهب يجب ألا تتعدى أكتر من 5 أو 6 جرام، لأن الدهب فى العالى، وال5 جرام ممكن يعملوا 1350 جنيه، لذلك شغل الدهب لازم يكون موزون وفيه حرص شديد». انتهى محمد حسين من كتابة اسم ابنة أحد الزبائن باللغة العربية بمعدن الذهب، قديماً لم يكن محمد يسبك هذا القدر من الذهب فى قلادة، فى البداية بداية عمله فى مهنة الذهب لم يكن يسبك إلا بضعة جرامات خشية فقد المال، وأصحاب الورش فى مهنة كصياغة الذهب لا يسلمون سبائك ذهبية بمئات الألوف من الجنيهات للأولاد الصغار، كى يتعلموا فيها صياغة المعدن الأصفر النفيس. الماكينات الحديثة لصياغة الذهب تختزل كل هذه الخطوات فى خطوتين على الأكثر، فقط يلقى العامل بقطع الذهب فى بوتقة كبيرة تصهر الذهب ثم تصبه فى قوالب جاهزة دون الحاجة إلى تكرار عمليتى الطرق والسحب أكثر من مرة، ودون الحاجة إلى وضع مادة شمعية على الذهب لتسهيل سحبه، فالعامل فى هذه الحالة لا يتكبد سوى إخراج الذهب الذى شكل من القالب الذى يحويه. يقول محمد: «المكان الجديد ممكن يعمل حتت دهب دون عدد، والعامل الموجود فى المكان ده مش هيتحمل غير إنه يصب الدهب فى القوالب، ويفك حتت الدهب من القوالب بعد ما تاخد شكلها ويجلخها علشان تبقى لامعة، بس فين الذوق والصنعة؟ فيه ناس بتحب تتعامل مع الورش اليدوية، لأن دى هى أساس الصنعة». «الدهب له مواسم» هكذا يبدأ «كرم» كلامه عن حجم مبيعاته من الذهب، ثم لا يلبث أن يشرح «يعنى فى شهور الصيف، من أول شهر يونيو ويوليو، بيقل الطلب على الدهب فالشغل بيقل، ولا نبيع كتير، على عكس طبعاً أوقات الشتا، يكون فيه بيع أكتر، قبل ما يحصل أن الناس تدخل فى دوامة مصاريف المدارس وكدة، فى أجازات نص السنة، ووقت ظهور النتائج، وفى أوقات الأعياد، هى دى مواسم الدهب فى مصر». كرم ومحمد لم يمتلكا «ورشة» خاصة بهما إلا منذ ما يقرب من العامين تقريباً، فى السابق وقتما كانا يعملان كصبيين لدى أصحاب الورش، كان كل منهما يصل إلى ذروة الفرح وقت ما كان يحمل مفاتيح الورشة، التى كانا يعملان فيها، صار لديهما «ورشة» خاصة ومفاتيح لا يحملها غيرهما. الورشة لدى كرم ومحمد ممتلئة بأصناف مختلفة من الأدوات والمواد عشرات «الكماشات» مختلفة الأشكال والاستخدامات، زجاجات من المواد الكيماوية مشتقة كلها من «ماء النار»، مواد تأكل ما يعلق بالذهب المسبوك من بقايا شمع، أو «دنكار» المادة المستخدمة فى صهر الذهب، السوائل الملتهبة، التى يستخدمها كرم تكسب الحلى الذهبية التى يقوم بتشكيلها لمعة وبريقاً لا مثيل لهما. ينهى محمد حسين كلامه قائلاً: «حرفة صياغة الدهب محتاجة واحد بيحبها، ياخد باله من كل شىء، يدى للمهنة حقها علشان تديله حقه، لازم يكون صايغ الدهب أمين، دايماً الأسطى بتاعى وهو بيعلمنى يقولى يا محمد لازم تلتزم الأمانة، لأن اللى يكدب ممكن يسرق، وبعد كده، لازم يد صايغ الدهب تكون حريصة مايقعش منها جرام دهب، وإلا بيته هيخرب».