«العلبة دى فيها إيه؟».. «العلبة دى 4 صنايعية بيشتغلوا فيها».. هذا أقل ما يُقال عن تلك العلبة الدائرية أو المستطيلة أو المُسدسة، التى تُباع فى النهاية لأحد الزبائن الذين تكون أغلبيتهم من الأجانب، ليعود إلى بلاده بتلك العلبة فيسأله أصدقاؤه: «العلبة دى جميلة جداً.. سعرها كام؟».. فيرد: «70 دولارا»، فى حين أن تكلفة صنعها لا تتعدى 30جنيها، وفقاً ل«الشكمجية». قديماً كانت الجدة تقول لحفيدتها: «يلّا بقى اكبرى بسرعة عشان بابا يجيبلك الشكمجية».. كان من حق كل بنت فى العائلة عندما تكبر وتصبح فتاة جميلة أن يهديها والدها «شكمجية».. تلك العلبة الخشبية المُرصعة بالصدف والتى عرفها المصريون وقت الاحتلال العثمانى. 4 ورش متجاورة فى حارة قديمة بمنطقة الأزهر، أولها نجار.. والثانى أستورجى.. الثالث صدفجى.. أما الأخير فهو المنجد، وجميعهم يشتركون فى صنع تلك العلبة السحرية. يقول الأسطى «محمد عباس» (صدفجى ورث المهنة عن والده): «زمان كنا بنعمل الشكمجية بخشب الورد المحفور يدوياً ونلزق عليها الحروف الأولى بالذهب حسب رغبة المشترى، وتتبطن بالحرير الهندى الذى كان يتاجر فيه كبار تجار شارع الأزهر والدرب الأحمر والمغربلين.. أما دلوقتى فالشكمجية انقرضت وبقينا نعمل علب المجوهرات الصغيرة بأشكال مختلفة.. لكن بنحافظ على مكونات الشكمجية القيمة». يجلس الأسطى «إبراهيم» أمام ورشة نجارته فى انتظار القطع الخشبية لصنع علبة المجوهرات الصغيرة، وببضع مسامير ودقات متتالية بذلك الشاكوش ينتهى من صنعها وتُصبح «غشيمة»، وهو مصطلح يُطلق على العلبة المجردة من أى زخرفة. ثم تذهب «العلبة» فى رحلة بين الورش الأربع لتنتقل إلى الأسطى «محمد عباس» الجالس داخل ورشته، يقبض بيديه على «المُلقاط» ثم يأخذ قطع الصدف ويلصقها واحدة تلو الأخرى بجوار بعضها البعض.. ويظهر الشكل النهائى الذى يكون ك«خريطة»، نقش أو رباط، وجميعها زخارف إسلامية. رحلة «العلبة» تمضى بعد ذلك إلى الأسطى «مراد» الأستورجى الذى تلونت ملابسه باللون الأحمر بسبب مادة «الجمالكا» التى يستخدمها لدهان «الشكمجية». يلتقط بين أصابعه قطعة إسفنجية رقيقة، يغمسها داخل برطمان «الجمالكا» لتتحول العلبة من لونها الطبيعى إلى الأحمر، لتعود مرة أخرى إلى النجار الذى يفتحها ويضع فى داخلها المفصلات التى تتحكم فى فتحها وغلقها، ليستلمها الأسطى «سيد» المنجد، فيُبطن العلبة من الداخل بالقطيفة، لتعود إلى «الأستورجى» مرة أخرى لتحمل لفظ «الفينش». مراحل متعددة ومتكررة يقوم بها الأسطوات الأربعة فى سبيل النجاح وإنهاء بضع «علب» خشبية، لكن المهنة التى تستمد عراقتها من ربوع القاهرة الفاطمية أوشكت على الانقراض. يقول الأسطى مراد: «تكلفة العلبة متتعداش 50 جنيه.. وبنبيعها للتجار ب70 جنيه غصب عننا.. لأن التاجر ده هو اللى بيدينا مكونات العلبة. زمان كان كل حاجة موجودة فى مصر، لكن أغلب أصحاب البازارات فى الحسين والأزهر بيستوردوا الخامات واحنا بنشتريها منهم. ولو زودنا فى سعر بيع العلبة هيزودوا علينا فى تمن الخامات». ويتدخل الأسطى «عباس» فى الحوار: «دلوقتى التجار بيشتروا كيلو الصدف ب2 دولار.. إزاى أشتريه أنا ب100جنيه». عندما رحل الملك فاروق من مصر على يخت المحروسة.. ترك مقتنيات أسرته التى كان من بينها «الشكمجية» التى طرحت فى مزاد بمليون ونصف المليون جنيه. مهنة على وشك الانقراض.. يحاول أصحابها الحفاظ عليها لأنها جزء أصيل لا يتجزأ من مصر. يتذكرون «ناس زمان» الذين كانوا حريصين على اقتناء تلك التحف، لتختفى الشكمجية رويداً رويداً ويتبقى شكلها فى مخيلتنا وفى أفلام السينما والمسلسلات.. وكما يُقال: «لكل وقت أذان.. ولكل شكمجية زمان»!