«مفيش عندنا غرفة عناية مركزة»، كلمات نزلت على «نعمة»، ابنة «فوزية مطاوع سالم»، 55 سنة، كالصاعقة، خصوصاً بعد أن شدد عليها طبيب مستشفى بولاق العام بضرورة نقل أمها إلى غرفة العناية فوراً، لخطورة حالتها الصحية، لكنها تشبثت بقليل من الأمل فسألت الطبيب: «نروح فين؟»، فقال باقتضاب: «اتصلوا برقم 137 طوارئ وزارة الصحة». قبل صدمة «نعمة» من رد الطبيب بدقائق، كانت تجلس إلى جوار والدتها، تسألها عن حالتها الصحية، لترد الأم بصوت خافت: «الحمد لله على كل حال، لكن تعبانة شوية». تستأذن «نعمة» للنزول وإحضار الدواء. تغيب قليلاً لتعود وتجد والدتها غائبة عن الوعى، فلا يقطع صوت صراخها إلا محاولات الجيران تهدئتها. وتمر الدقائق كالدهر على كل من فى غرفة الأم. أحد أبناء الجيران ذهب لإحضار تاكسى لنقل الأم إلى أقرب مستشفى. وفى انتظار التاكسى، تستعيد «نعمة» كلمات الطبيب وتحذيره من خطورة ارتفاع الضغط ونسبة السكر فى الدم على حالتها. يساعد الجميع فى نقل الأم إلى السيارة، ثم يتحركون فى طريقهم إلى مستشفى بولاق الدكرور العام. مقعد صغير أحضره زوج «نعمة» لتجلس عليه «حماته»، لتسهيل مهمة حملها من داخل السيارة إلى قسم الطوارئ بالمستشفى. تطلب «نعمة» من ابن خالتها مساعدة زوجها فى حمل الأم. خطوات سريعة، حتى أول طبيب يقابلونه داخل ممر المستشفى، يطلبون منه سرعة إسعاف الأم. يُجرى الطبيب الفحوصات ثم يكتب تقريراً ينهيه بالتنبيه على ضرورة نقل الأم إلى غرفة رعاية مركزة، يفتقر المستشفى إلى واحدة منها. وفقاً للدكتور خالد الوشاحى، المشرف على الخط الساخن بوزارة الصحة، فإن الوزارة استحدثت نظاماً «مميكن» يسهّل على المواطنين -من خلال اتصالهم بطوارئ الوزارة- الانتقال إلى أقرب مستشفى به غرفة عناية مركزة، موضحاً أنه بمجرد اتصال أهل المريض يتلقون رداً آلياً يعرض عليهم 6 خيارات، هى خدمات الرعاية المركزة والحضانات، والاستفسار عن العلاج على نفقة الدولة، وخدمات نقل الدم، والشكوى من الطوارئ، والخدمات العاجلة مثل الغسيل الكلوى والجهاز الهضمى والأشعة المقطعية، وأخيراً إمكانية التواصل مباشرة مع مدير الطوارئ بالوزارة. وأوضح الوشاحى أن هذا النظام تم تفعيله فى 85 مستشفى بالقاهرة الكبرى متصلة بشبكة واحدة، يمكن من خلالها معرفة الأماكن الشاغرة بكل مستشفى لتقديم الخدمات المطلوبة، مشيراً إلى أن الخطوة التالية تتضمن إمكانية إرسال سيارة إسعاف لنقل المريض إلى المستشفى الذى يوفر الخدمة المطلوبة. بعد أن أبلغها الطبيب برقم الطوارئ، خرجت نعمة برفقة والدتها وزوجها وابن خالتها من المستشفى دون أن يعلموا إلى أين يذهبون على وجه التحديد. أمسك أحمد السيد، زوج الابنة، هاتفه واتصل بطوارئ وزارة الصحة، أخبرهم بما قاله طبيب مستشفى بولاق العام عن حالة الأم، وطلب منهم توفير سيارة إسعاف تنقل المريضة المُسنة إلى مستشفى به سرير شاغر فى غرفة العناية المركزة، ولم يكد يكمل حديثه معهم حتى أخبروه بأنه لا يمكنهم توفير سيارة الإسعاف إلا إذا توافر طبيب مرافق فى السيارة، فأبلغهم أن المريضة معه فى تاكسى ولا يمكنه العثور على طبيب الآن، فقالوا إنهم سيعاودون الاتصال به بمجرد توافر سرير فى غرفة عناية مركزة فى أى مستشفى. توقف التاكسى أمام مستشفى قصر العينى، وتكرر المشهد مرة أخرى، الزوج وابن الخالة يحملان الأم على مقعد صغير ويبحثون عن مكان فى غرفة العناية المركزة، ينظر طبيب قسم الطوارئ إلى التقرير الطبى للحالة، ثم يعتذر عن عدم توافر السرير، وهو ما يدفع «نعمة» إلى حالة بكاء هستيرى طلباً لمساعدة الطبيب الذى نصحها بالتوجه إلى مستشفى المنيرة، على أن تترك رقم هاتفها، ووعدها بالاتصال بها فور توفر سرير فى غرفة العناية. ويتكرر المشهد مجدداً فى مستشفيات المنيرة والحسين الجامعى وحلوان والقاهرة الجديدة وأحمد ماهر. نقص غرف العناية المركزة فى مصر مشكلة معقدة، بحسب قول الدكتور محمد حسن خليل، منسق حركة الدفاع عن الحق فى الصحة، مشيراً إلى أن الأزمة تبدأ من ضعف ميزانية الصحة ونقص عدد الأطباء وطاقم التمريض مروراً بضعف الرواتب وصولاً إلى عدم استمرارية صيانة الأجهزة فى غرف العناية المركزة، مضيفاً: «لو بدأنا بالميزانية، فنسبة الإنفاق على الصحة فى مصر أقل من 5% من نسبة الإنفاق الحكومى، بينما عالمياً يجب ألا تقل هذه النسبة عن 15%، لذلك من المتوقع أن يكون لدينا منظومة صحية متداعية لأن الحكومة تريد توفير الخدمة كاملة بينما هى تدفع ثلث ثمنها الحقيقى، وإذا تحدثنا عن الأطباء والتمريض فرواتبهم ضعيفة ولا تتوافر لهم دورات تدريبية ترفع من مستواهم الطبى، أما الصيانة الدورية فعلى الرغم من أهميتها، فإن أكثر ما يمكن توقعه من حكوماتنا ملاحقة أعطال الأجهزة أولاً بأول، دون أمل فى صيانة دورية». ووفقاً للدكتور عادل عدوى، نائب رئيس جامعة بنها ومقرر عام اللجنة العليا للمستشفيات الجامعية: «إذا تحدثنا عن المعدلات العالمية القياسية فيما يخص أسرّة العناية المركزة، فلابد أن يتوافر سرير لكل 7000 مواطن، ولدينا فى مصر 3000 سرير فقط موزعة على 81 مستشفى جامعى، ونحو 2500 سرير فى مستشفيات وزارة الصحة، إضافة إلى نحو 1000 سرير فى المستشفيات الخاصة، ما يعنى أننا لا نستطيع وفقاً للمقاييس العالمية توفير رعاية صحية متميزة فى مجال العناية المركزة، إذ إننا بحاجة إلى نحو 12 أو 15 ألف سرير، لدينا منها 6500 فقط». لم يتسلل اليأس إلى نفس نعمة وحدها، وإنما إلى نفس والدتها التى تغيب عن الوعى لدقائق ثم تفيق لتقول لنجلتها وزوجها وابن شقيقتها «روّحونى البيت، مش عاوزة اتبهدل». الدكتور خالد الخطيب، مدير الإدارة العامة للرعاية الحرجة والطوارئ بوزارة الصحة، قال إن الإدارة المركزية للرعاية العاجلة تولى اهتماماً خاصاً بالحالات الحرجة، موضحاً أن الوزارة حرصت على تكليف إدارة بعينها بمتابعة الأقسام الحرجة وغرف العناية المركزة ومتابعة الأداء الوظيفى بها وصيانة الأجهزة وضمان توافر الأدوية، وهو الدور المنوط بالإدارة المركزية للرعاية الحرجة والعاجلة. وأضاف «الخطيب» أنه فور وصول المريض إلى المستشفى بسيارة إسعاف أو بسيارته الخاصة يُنقل إلى قسم الطوارئ لمناظرة الحالة، وتحديد ما إذا كان يحتاج عملية جراحية أم غرفة عناية مركزة أم بعض الإسعافات الأولية فقط، لكنه وبرغم إقراره بالنقص الشديد فى غرف العناية المركزة قياساً بالمعدلات العالمية، استنكر تجاهل إسعاف المريض فور وصوله فى حالة حرجة لأى مستشفى، قائلاً إن التعامل مع المرضى له بروتوكولات متعارف عليها فى جميع المستشفيات ولا بد من الالتزام بها، مؤكداً: «لم تصلنا أى شكوى من أهل مريض عانوا فى سبيل الحصول على سيارة إسعاف، واضطروا لنقل المريض بالتاكسى بحثاً عن غرفة عناية مركزة». نقطة مضيئة عادت بالأمل مجدداً إلى روح «نعمة»، بعد أن أبلغها أحد أطباء مستشفى حلوان عن وجود سرير شاغر فى غرفة العناية المركزة، لكنها سرعان ما أُحبطت من جديد، إذ أبلغها الطبيب بأن السرير متوافر، لكن المستشفى يفتقر إلى الإمكانيات الطبية اللازمة لعلاج والدتها، وهو ما علق عليه الدكتور عادل عدوى بقوله: «أحياناً يكون فى مستشفى ما 20 سريراً بالعناية المركزة، لكن مصاريف تشغيلها تفوق ميزانية المستشفى، فلا يجد مدير المستشفى إلا العمل بنصف طاقته فقط ليتمكن من تقديم خدمة متوازنة للمريض فى حدود إمكانياته». وأوضح الدكتور محمد حسن خليل: «أحياناً يكون السرير والأجهزة موجودة، لكن ما يعطلها نقص الطاقم المدرب الذى لا تجذبه الرواتب الضئيلة، خصوصاً أن طبيعة العمل داخل غرف العناية المركزة شاقة للغاية. أما عن التمريض، فبالرغم من أن 70% من المهام العلاجية داخل غرف العناية المركزة تقع على كاهل فريق التمريض، فإننا نعانى من نقص نحو 50% من العدد المطلوب من أطقم التمريض». يومان كاملان استغرقتهما رحلة بحث «نعمة» وزوجها عن سرير شاغر لوالدتها، ولكن دون أى جدوى، حاولا خلال هذا الوقت التردد على بعض المستشفيات الخاصة التى يقابلونها صدفة لربما يجدون سريراً شاغراً بسعر مناسب، لكن فى كل مرة كان الأمر يصبح أكثر صعوبة، والأمل يصبح أكثر بعداً. «كانوا بيطلبوا مننا 10 آلاف جنيه تحت الحساب، طب نجيب منين المبلغ ده واحنا ناس غلابة وعلى أد حالنا؟»، هكذا تتذكر الابنة تفاصيل أيام لم ولن تنساها، قائلة: «كنت باقول لهم: طب احجزوها واحنا هنبقى نحاول ندبر المبلغ لدرجة إنى كنت باوطّى عشان أبوس على رجليهم، لكن كل ده من غير أى فايدة، بقيت أبص لأمى وأقول لها: حقك عليا، أنا مش فى إيدى حاجة والله، تقول لى: روّحينى عشان أموت فى بيتى». وعن تكلفة تشغيل غرف العناية المركزة، قال دكتور عادل عدوى إن «مريض العناية المركزة يكلف الدولة مبالغ كبيرة، بدليل أن المريض نفسه فى حال انتقل إلى غرفة عناية مركزة فى مستشفى خاص يبدأ أهله فى الشكوى بعد يومين على الأكثر من ارتفاع التكلفة، ولأن الحكومة تقدم الخدمة بالمجان فى مستشفياتها فإنها تحتاج الكثير من الدعم لتتمكن من الاستمرار فى تقديم الخدمة لهؤلاء المرضى الذين لا تقل تكلفة إقامة الواحد منهم فى غرفة العناية عن 1000 جنيه يومياً». وقال مدير الإدارة العامة للرعاية الحرجة والطوارئ بوزارة الصحة: «تجرى وزارة الصحة حالياً مناقصة لتجهيزات الرعاية المركزة بطاقة 400 أو 500 سرير وحضانة شاملة التجهيز، ومدّ المستشفيات الحكومية بها لسد العجز فيها، فى إطار الخطط قصيرة المدى التى وضعناها لحل الأزمة بشكل عاجل». حالة «أم نعمة» الصحية لن تتحمل أى خطط حكومية قصيرة أو طويلة المدى، لذلك وفى آخر محطة فى رحلة معاناة السيدة المسنة، ومع شمس اليوم الثالث لتلك الرحلة، توجهت الأسرة إلى مستشفى المنيرة للمرة الثانية بعد أن زادت الحالة سوءاً، فى ظل بقائها فى سيارة التاكسى على مدار يومين، وافقت الطبيبة على حجز الأم المسنة لتقديم الإسعافات لها لحين توفر سرير فى العناية المركزة، قبل أن تلفظ الأم أنفاسها الأخيرة، قبل أن تنجز الحكومة خططها المستقبلية. وبكل المرارة قالت نعمة: «كنت أتمنى أن يتعرض أى مسئول حكومى لموقف أمى، ليعلم حجم المعاناة التى عانيناها بسبب إهمال الحكومة أرواح المصريين. سمعت مرة فى إحدى المحطات التليفزيونية أن هناك جمعيات ومنظمات لحماية حقوق الحيوان فى الخارج، وعندما توفيت أمى علمت أن الكلب فى الخارج له أهمية أكثر من المواطن الفقير فى مصر». أما زوجها فقال: «من اللى شفته مع حماتى طول يومين رحنا فيهم 8 مستشفيات ندور على سرير فى غرفة عناية مركزة، وكنا بنبات فى الشارع عشان فيه مستشفيات كانت بتقول لنا: عدوا علينا كمان ساعتين يمكن يفضى مكان، عرفت إن الفقير فى البلد دى مالوش تمن وإنه لما هيتعب مش هيموت من التعب لكن هيموت من الفقر». وقال المشرف على خدمات الطوارئ بوزارة الصحة إن «من أصعب المواقف التى أمرّ بها أنا والعاملون معى عندما لا تكون الخدمة متوافرة فى المستشفيات التى نتواصل معها، ونتصل بعد وقت بأهل المريض لإبلاغه بإيجادنا مكاناً شاغراً فتأتينا الإجابة أن المريض توفاه الله».