خمسون عاماً مرت على رحيل عبقرية جمعت بين الهندسة والموسيقى، وكلتاهما تحتاج إلى دراسة وجهد وبحث.. إنه المهندس والموسيقار أبوبكر خيرت، أول عربى يؤلف سيفمونية. ربما يخلط بعضكم بينه وبين الموسيقار الرائع عمر خيرت، الموسيقار أبوبكر خيرت هو عم الموسيقار عمر خيرت، الذى تأثر بعمه وأكمل الحلم الذى بدأه، وهو أن تصل الموسيقى الشرقية إلى العالمية، وهو ما نجح فيه عمر خيرت بالدراسة والجهد والعمل، وبتنمية الموهبة التى منحها الله له. ولد أبوبكر خيرت فى السابع والعشرين من شهر أبريل عام 1910، ومنذ طفولته المبكرة حرص والده المحامى والأديب محمود خيرت على تعليمه الموسيقى، وفى سن السابعة ظهرت موهبته الموسيقية فاهتم بها والده المثقف المحب للفن وأحضر له الأستاذ التركى «أحمد دادة» ليدرس له العزف على الكمان، ليشترك أبوبكر خيرت وعمره سبعة أعوام فى حفلة أقامها نادى التجارة العليا وقام بعزف مقطوعة على الكمان بمصاحبة أستاذه التركى أحمد دادة، الذى كان يعزف هو الآخر على الكمان، فكانا يكونان معاً «دويتو شرقى». وكان سعد باشا زغلول حاضراً هذه الحفلة، وعندما بدأ أبوبكر وأستاذه العزف لاحظ سعد باشا فرق السن بينهما، فأمر بإيقاف العزف وإخراج الأستاذ «أحمد دادة» من المسرح، ثم قال ضاحكاً للطفل أبوبكر خيرت: «ورينا بقى شطارتك لوحدك»! ضجت القاعة بالضحك، وشعر أبوبكر الصغير بالحرج والخوف، ولكنه الخوف الذى دفعه للتحدى ومنحه شجاعة المواجهة، فعزف بمفرده ونال استحسان الجميع، وعندما انتهى من العزف استدعاه سعد باشا زغلول وهنأه وسط تصفيق الحضور، وكان لهذا اليوم أكبر الأثر فى حياته الفنية والشخصية. عشق أبوبكر خيرت الموسيقى وتنوع اهتمامه بها، فكان يستمع لأسطوانات مشاهير مؤلفى البيانو، مثل موزارت وبيتهوفن. أحب أبوبكر خيرت البيانو، وفى سن العاشرة درس البيانو على يد اليونانى الأستاذ «كوستاكس»، أعظم أساتذة فن الموسيقى فى ذلك الوقت. واستمر يدرس لمدة عشر سنوات. من ملامح طفولة أبوبكر خيرت أيضاً علاقته بفنان الشعب الموسيقار سيد درويش؛ ففى يوم من الأيام عندما كان أبوبكر فى الثالثة عشرة من عمره، وقبل وفاة الشيخ سيد درويش بأيام قليلة، مر الشيخ سيد درويش بمنزل صديقه المحامى محمود خيرت فوجد ابنه أبوبكر يعزف على البيانو مقطوعة لبيتهوفن نالت إعجاب الشيخ سيد درويش، فلما انتهى أبوبكر من العزف وضع الشيخ سيد درويش يده على كتف أبوبكر وشجعه قائلاً فى إعجاب: «استمر فى طريقك، فهذا هو الطريق الذى كان ينبغى أن أسلكه، كم كنت أود لو أتيحت لى الفرصة التى تتاح لك اليوم! فكنوز موسيقى الغرب لا يتأتى دراستها أو فهمها إلا بعد تعب شديد ومجهود متواصل». ولأنه أحب موسيقى سيد درويش وتفتحت مواهبه على أنغامها، قام أبوبكر خيرت بوضع أول معزوفة للبيانو سماها «لحن إيه العبارة؟» للشيخ سيد درويش، وكتب على غلافها هذه العبارة: «هذه الأغنية الشعبية كان يغنيها سيد درويش لوالدى عندما كنت أبلغ من العمر اثنى عشرة عاماً، وقد حولتها إلى مقطوعة منذ ذلك التاريخ عام 1922». لم يمنعه حبه للموسيقى من التفوق فى الهندسة ليصبح فى عام 1930 أول دفعته فى الهندسة المعمارية بتقدير امتياز، ثم يسافر إلى فرنسا فى بعثة حصل فيها على المركز الأول بامتياز، ويعود إلى وطنه بشهادته وبالبيانو الذى اشتراه بكل ما ادخره. أحب أبوبكر خيرت الموسيقى، فكانت حافزاً له للتفوق فى الهندسة فوضع التصميم الهندسى لمعهد «الكونسرفتوار» وكان أول عميد له، احتضن «الكونسرفتوار» العديد من المواهب لمعت فى سماء الأنغام. وفى الخامس والعشرين من شهر أكتوبر عام 1963، رحل العبقرى أبوبكر خيرت، وما يزال كل ركن فى صرحه العظيم «الكونسرفتوار» يحمل بصمته التى جمعت بين العلم والفن، بين أدوات الهندسة وأصابع البيانو.