يبقى الجذر الأصيل لاستشراء الفساد فى البلدان العربية، هو تزاوج وجهى القوة (السلطة السياسية والثروة) فى نظم الحكم العربية الاستبدادية الراهنة. وحيث يتمثل جوهر نقيصة استشراء الفساد هو وجود نسق مجتمعى وبنى قانونية ومؤسسية تسمح بالفساد، إن لم تزيّنه، وتسمح بالإفلات من العقاب عليه. نرجو أن تُضمّن لجنة الخمسين مشروع الدستور مقومات نسق للنزاهة الوطنية يتوخى القضاء المبرم على الفساد بشقيه المالى والسياسى كما عرفناه فى مقال الأسبوع الماضى. * نحو نسق وطنى للنزاهة فيما يلى أهم أولويات إنشاء نسق نزاهة وطنى متكامل، كفء وفعال، وهى تتجاوز المعالجات التقليدية لمكافحة الفساد المالى. 1 - البنية القانونية: محتوى الدستور والقوانين المشتقة منه بالتركيز على المحاسبة والمساءلة. الاحترام القطعى للحريات المفتاح (الرأى والتعبير والتنظيم التجمع السلمى وإنشاء المنظمات فى المجتمعين المدنى والسياسى، شاملاً وسائل الإعلام والأحزاب، بمجرد الإخطار للقضاء، بإجراءات ميسرة، وحرية نشاطها، والعودة إلى أصل نصوص القانون المدنى بشأن الجمعيات والمؤسسات) مع النص على حظر التمييز حسب الجنس أو المعتقد وعدم جواز تقييدها بالقانون أو الإجراءات المشتقة من الدستور. ضمان نزاهة الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجالس المحلية، تحت الإشراف القضائى الكامل، وتجريم الرشى الانتخابية وتجاوز الحدود المالية للدعاية الانتخابية، باعتبارها جرائم مخلة بالشرف ولا تسقط بالتقادم. الانتخاب الحر المباشر لرئيس الدولة والمحافظين والعُمد، دورياً فى انتخابات حرة ونزيهة، مع تحديد مدة الولاية بما لا يزيد على مدتين متتاليتين، كل منهما أربع سنوات. تمتع المجالس المنتخبة، مركزياً ومحلياً، بجميع صلاحيات النظر فى الموازنات، وتعديلها، ومراقبة الإنفاق. تقييد سلطات رئيس الدولة، والفصل الرشيد بين سلطات الدولة الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) وبما ييسر المساءلة المؤسسية فيما بينها. ضمان مساءلة جميع المسئولين (الرئيس ورئيس الوزراء، والوزراء ونوابهم والمحافظين والموظفين التنفيذيين على المستوى المحلى)، وصولاً إلى العزل، أمام المجلس التشريعى والمجالس المحلية المنتخبة، والقضاء. الاستقلال التام لهيئات الرقابة وتوسيع نطاق عملها ليشمل مشروعات الأعمال (العامة والخاصة) وإتاحة تقاريرها للجمهور والمجتمع المدنى. الاستقلال التام للقضاء (يتكون المجلس الأعلى للقضاء من القضاة فقط، ويُنتخب رئيسه من بينهم، ويقوم المجلس على شئون تعيين القضاة واختيار رؤساء المحاكم وترقية القضاة وتأديبهم، ولا يُسمح للقضاة بالغياب عن منصة القضاء بالانتداب أو تولى المناصب التنفيذية العليا؛ وانتخاب رئيس المجلس والترشيح لمنصب النائب العام، مع اشتراط تصديق مجلس الشعب على التعيين، وتحديد مدة ولاية النائب العام ورئيس المجلس بأربع سنوات تجدد مرة واحدة؛ كما يختار المجلس لجان التفتيش القضائى). تشديد العقوبات فى قانون الكسب غير المشروع، وبسط نطاقه لكل من يتصدى للمنصب العام، ووضع قانون لمنع تضارب المصالح، يحظر الجمع بين المنصب العام وإدارة الأعمال الخاصة، وتطبيقه على جميع من يتصدى للعمل العام واشتراط إشهار الذمة المالية، شاملة جميع أنواع الأصول، مما يساعد عليه استكمال مشروع السجل العينى؛ قبل وبعد تولى المنصب، ودورياً خلال تولى المنصب، ونشرها على الملأ، مع الحفاظ على الخصوصية بما لا يتعارض مع مقتضيات المصلحة العامة. النص على حماية المبلغين عن جرائم الفساد والشهود، والخبراء، فيها. حظر عمل المسئولين السابقين فى القطاع الخاص إلا بعد فترة طويلة من ترك المنصب. تحديد مدة ولاية رؤساء الأجهزة الرقابية بما لا يزيد على مدتين متتاليتين كل منها أربع سنوات. إقرار الحق فى تداول المعلومات والوثائق وتيسير الحصول عليها. حظر التفويض المطلق لأى من المسئولين فى عقد الصفقات. حظر تحصين أى قسم من المال العام من الرقابة والمساءلة. تعزيز استقلال أجهزة الإعلام عن الدولة وتحريرها من سطوة المال. 2 - آليات المتابعة والرقابة: الحكومية (المحاسبات، والرقابة الإدارية)، وفى الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى. تخويل أجهزة الرقابة سلطات قضائية تحت إشراف المجلس الأعلى للقضاء ومجلس الشعب. بسط مبادئ الرقابة والمتابعة إلى جميع مكونات قطاع الأمن (القوات المسلحة والمخابرات والشرطة). إنشاء ديوان للشكاوى أو المظالم (على المستويين المركزى والمحلى) يتبع المجلس النيابى المنتخب. التنسيق بين الأجهزة الرقابية وتبادل المعلومات بينها. استقلال الأجهزة الرقابية. تفعيل دور المجتمع المدنى، خصوصاً المنظمات القائمة على قاعدة الانتخاب من قاعدة للعضوية فى الرقابة (مع ضمان الاستقلال والنزاهة، والتعدد النقابى). منع خضوع وحدات الرقابة فى الوزارات والهيئات للرئيس الأعلى فيها، على أن تخضع، إدارياً وفنياً، لجهة رقابة مركزية. تنشيط دور أجهزة الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى فى الرقابة والمساءلة. ضمان مستوى كريم من المعيشة من خلال حد أدنى للأجور يزيد مع التضخم، والحد من التفاوت فى الدخول. إنشاء مرصد حقوقى للشفافية فى الحكومة وقطاع الأعمال والمجتمع المدنى. وضع مدونات للسلوك القويم فى الحكومة وقطاع الأعمال والمجتمع المدنى، لا سيما للمشتريات والمناقصات، وإصدار شهادات لتوثيقها فى حال تحققها. إخضاع حسابات المسئولين فى البنوك للتدقيق تلقائياً، وتقوية وحدة غسيل الأموال. إنشاء هيئة عليا للنزاهة ومناهضة الفساد، تتوفر على وضع استراتيجية شاملة للنزاهة ومتابعة تنفيذها وتقييم الإنجاز. 3 - مساءلة الحكام والمسئولين: أمام مجلس الشعب والقضاء والانتخابات الدورية (الحرة والنزيهة). عدم تحصين أى من يتصدى للعمل العام من مساءلة القضاء والأجهزة الرقابية والمجالس المنتخبة، مركزياً ومحلياً، وتيسير آليات الرقابة والمحاسبة. مشاركة منظمات المجتمع المدنى والإعلام، والمواطنين الأفراد، فى مساءلة المسئولين. إنشاء لجنة قضائية دائمة ومستقلة للإشراف على الانتخابات الرئاسية والتشريعية. 4 - الحكم الديمقراطى الصالح. تأسيس الحكم على أساس الانتخاب الحر المباشر للمسئولين وخضوع المسئولين التنفيذيين للمساءلة من قِبل المجالس المنتخبة. قصر حصانة أعضاء المجالس المنتخبة فى الأساس على مشاركتهم فى أعمال المجلس مع تخويل سحبها بحكم قضائى. تعزيز مبدأ التطوع، خدمة للشعب، فى عمل المجالس المنتخبة. اعتماد التصويت الإلكترونى فى المجالس المنتخبة. تعزيز سلطات المجالس المحلية المنتخبة فى تنمية الموارد محلياً ووضع الموازنات لإنفاقها، ومتابعة الأداء فى تنفيذ المشروعات والبرامج.