استيقظت ذات يوم على صوت ابنتى وهى تزف إلىَّ بطريقتها المرحة خبراً مفاده أن «المكنة طلَّعت قماش»، وهى العبارة المشهورة للفنان الراحل فؤاد المهندس فى فيلم «عائلة زيزى»! أدركت ما كانت تريد أن تخبرنى به بعد شهور من اكتئابها بسبب النموذج الإحصائى الذى كانت تبنيه لدراسة التماسك الاجتماعى فى مصر، موضوع رسالتها لنيل درجة الدكتوراه فى الإحصاء! كانت قد قامت باستعراض النماذج التى قامت عليها أبحاث مشابهة فى بقاع أخرى من العالم، لكن أياً منها لم يكن يعطى نتائج توافق بيانات الحالة المصرية، ولم تفلح معها حتى محاولة بناء نموذج جديد يقوم على مجموعة من الفرضيات التى استقرت باعتبارها من أساسيات بناء نماذج التماسك الاجتماعى! مئات المراجعات للمعادلات الرياضية ولبرنامج الحاسب استغرقت شهوراً، لم تفلح بدورها فى جعل النموذج يعمل، إلى أن كانت هذه الليلة الغراء التى قررت فيها الباحثة التى تسكن بيتى أن تغير بعض هذه الفرضيات، وكم كانت فرحتها كبيرة حين رأت «المكنة بتطلَّع قماش»! هذه المقدمة تبدو مفيدة لفهم بعض الأخطاء التى ارتكبها «تشومسكى» خلال محاضرته التى ألقاها لتحليل الأوضاع فى مصر، بدعوة من اتحاد الطلاب المصريين بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا MIT، وكذا خلال الحوار الذى تلاها؛ فجوهر البحث العلمى هو بناء النماذج التى نستدعيها لدراسة وفهم الظواهر، وأهم ركن فى بناء أى نموذج علمى هو جملة الفرضيات التى يقوم عليها هذا النموذج الذى ليس بالضرورة أن يكون رياضياً أو إحصائياً، لكن المهم هو وجوده وإلا تحول الأمر إلى حديث بلا خرائط ولا ضوابط. اعتمد «تشومسكى» -وكان هذا خطؤه الأبرز- نموذجاً «كونياً» لتدخل الجيش فى الحياة العامة، ينطبق على الأرجنتين والسلفادور، كما ينطبق على الجزائر وتركيا، ومصر بالطبع، دون أن يكلف الرجل نفسه مشقة البحث عن المتشابه بين المختلفات، أو عن المختلف بين المتشابهات؛ ومن ثم أسقط فروض هذا النموذج «الكونى» على الأوضاع فى مصر، ليصل إلى نتيجة ختم بها محاضرته هى أن مصر بصدد الانزلاق إلى واحد من أكثر عصورها إظلاماً تحت الحكم العسكرى! هنا وقع «تشومسكى» فى «سقطة» إشارته إلى واحد من أشهر المراسلين الأجانب المتخصصين فى شئون الشرق الأوسط، هو باتريك كوكبرن، نشر فى صحيفة الإندبندنت البريطانية مقالاً يقول فيه -وفق قراءة «تشومسكى»- إن «مصر توشك أن تدخل عصراً ظلامياً جديداً مع استعداد الجنرالات للقتل الجماعى»، ثم ربط هذه الجملة مباشرة بجملة يقول فيها «كوكبرن»: «إن عشرة جنرالات جيش متقاعدين وجنرالان من قوات الأمن من عهد (مبارك) قد تم تعيينهم محافظين لمحافظات إقليمية، وبهذا صارت مصر من الناحية العملية تحت الحكم العسكرى»! هذا الاقتباس الذى صاغه «تشومسكى» بمهارة ثعلب عجوز هو ما بنى عليه منطق حديثه عن «الانقلاب الدموى»! لخطورة هذا الاقتباس عدت إلى أصل المقال، ودُهشت حين رأيت «كوكبرن» لا يعرض الأمر بهذه الصياغة المثيرة؛ فالمقطع الأول مما اقتبسه «تشومسكى» هو عنوان المقال، ولا أثر له فى متنه الذى لم يظهر فيه تعبير «عصر ظلامى» إلا فى نهاية المقال، حيث يقول: «إن المصريين سيكونون محظوظين إن هم لم يبدأوا عصراً ظلامياً جديداً من القمع العسكرى». وشتان بين هذا المعنى وبين المعنى المتضمَّن فى عنوان المقال الذى يعلم «تشومسكى» يقيناً أنه يخضع فى صياغته لاعتبارات تحريرية لا يجوز معها وضعه فى جملة واحدة مع ما جاء فى متن المقال بحيث يعطى انطباعاً بأن تعيين العسكريين فى منصب المحافظ لمحافظات مصرية حدودية -لم يحددها «تشومسكى» ولم يذكر كاتب المقال طبيعتها- هو مكافأة لجنرالات يخططون معاً لعملية قتل جماعى! ليس هذا قبولاً للأفكار التى جاءت بمقال «كوكبرن»، فهو مقال ملىء بالمؤاخذات، ومنها تعبير «القتل الجماعى» أو -بترجمة أدق- «المطاردة بقصد القتل»، إذ يصور هذا التعبير الأمر وكأن الجيش قد أعد العدة لمطاردة جماعة «الإخوان» بحجة الإرهاب، وأن رغبة الجيش هذه هى التى جعلت وسائل الإعلام المصرية تشيطن «الجماعة»، تمهيداً لعملية الإبادة الجماعية، وكأننا بصدد انقلاب عسكرى دموى فى بورما، أو كأننا بصدد مشهد فى فيلم Missing ل«كوستا جافراس»! فكرة الدموية هذه طرحها «كوكبرن» حين وصف فض اعتصام «رابعة» بأنه «مذبحة»، لكن الغريب حقاً هو أن أياً منهما لم يفكر -ولو على سبيل الفرضية العلمية- فى أن تكون الخسائر عند فض اعتصام «رابعة» نتيجة نموذج «الانتحار الجماعى»، أو ما يعرف علمياً بالانتحار العقائدى Cult Suicide، لا نتيجة رغبة الجيش فى القتل؛ فما انتشر فى «رابعة» من ثقافة «الشهادة» يرجح هذا النموذج على نموذج الانقلاب العسكرى الدموى الذى يقوم به جيش نعلم يقيناً أن خطأه الأكبر هو إظهاره تسامحاً أكثر مما ينبغى تجاه هذه الجماعة «العقائدية». نموذج «الانتحار العقائدى» هذا معروف عبر التاريخ الإنسانى، ولا يمكن أن يغيب عن أكاديمى متميز مثل «تشومسكى»، حتى وإن غاب -وإن كنت أشك فى ذلك- عن مراسل مخضرم ك«كوكبرن»! فبعض الجماعات اليائسة قد تصل إلى تفضيل الانتحار على الاعتراف بالهزيمة، وبعض هذا الانتحار الجماعى قد يأخذ شكل قتل جماعى، يقتل خلاله أعضاء الجماعة بعضهم بعضاً من أجل تحقيق ما يعتقدون أنه يخدم قضية الجماعة! لا أقول إن هذه عقيدة «الإخوان» التى نعلم توجهاتها «النفعية»، لكننا لا نعرف كم «توربينياً» كان حاضراً فى «رابعة»، ولا كم ضحية تم استجلابها، ولا كم من الأدمغة تم التلاعب بها! هذه أمور قد لا يصدقها البعض، لكنها حقائق نفسية واجتماعية، وكان لا بد من إخضاعها للدراسة العلمية، وهو ما لم يفعل «تشومسكى» ولا «كوكبرن»، ولا حتى الحكومة المصرية! أعود إلى «تشومسكى»، الذى دعم نموذجه بفرضية أخرى تقول بأن تدخلاً للجيش فى الشأن المدنى لا بد أن يتعارض مع مصالح الطبقة العاملة، وهى فرضية فاسدة تاريخياً؛ فحكم «عبدالناصر» فى مصر وحكم «بيرون» فى الأرجنتين حققا الكثير من مصالح الطبقة العاملة فى البلدين، والعكس صحيح فى حالات أخرى! النموذج الذى افترضه «تشومسكى» إذن ليس «كونياً»، ومع ذلك رأى الثعلب العجوز أن يستدعى أحداث فض إضراب عمال مصنع صلب السويس ليبرهن به على صدق نموذجه، مؤكداً أن تزامن هذه الأحداث مع أحداث «رابعة» ليس صدفة، مفترضاً تعمد الجيش الجمع بين الحدثين، ومتجاهلاً تماماً أن يكون الطرف الآخر هو الذى تعمد الجمع بينهما! رغم محاولاته لمنح نموذجه مصداقية «كونية»، فإن الرجل فشل فى الإجابة عن السؤال المهم الذى وجهته إليه الدكتورة نازلى شكرى، التى كانت تدير الحوار من على المنصة، وهو ما البديل عن تدخل الجيش؟! الإجابة التى قدمها الرجل لم تكن تليق بصاحب اسم أكاديمى كبير، إذ رأى أن الحل كان ممكناً عبر النظام الديمقراطى دون أن يوضح كيف؛ فكل ما فعله أثناء محاضرته هو الإشادة بالمبادرة التى أعلن بعض الناشطين عن تدشينها تحت اسم «جبهة طريق الثورة» التى رآها تضم أسماءً مهمة، وقد أراها فى المقابل -مع احترامى لكل النوايا الحسنة- مجرد فقَّاعة إعلامية لا تأثير لها على أرض الواقع المصرى المعقد! وهنا تعود أزمة النموذج من جديد، فعلى امتداد محاضرته لم يلجأ الرجل ولو مرة واحدة إلى حديث مقارن بين نموذجين، ولم يتناول درجة الإضاءة فى مستقبل مصر تحت حكم «الإخوان» مقارنة بدرجة الإظلام التى رآها تهدد مصر نتيجة تدخل الجيش! تبقى قبل إنهاء الحديث ملاحظتان عابرتان، لكنهما لا تخلوان من أهمية؛ أولاهما أن الرجل لم يخف اهتمامه بتأثير ما يحدث فى مصر على إسرائيل، وأشار إلى اهتمام إسرائيل بما يحدث فى مصر؛ وثانيهما أن الرجل قد ظهرت عليه بوضوح عقدة «عبدالناصر»، أو بالأحرى عقدة حرب السويس التى تناولها ضمنياً وكأنها كانت حرباً بين الديمقراطية من جانب وديكتاتورية العسكر من جانب آخر! بعض الملاحظات الأخرى قد يضيق بها المقام، فدعونا ننهِ الحديث بإعطاء الرجل بعض ما له من حق ما دمنا قد بينا بعض ما عليه من مآخذ، إذ بدأ الرجل حديثه بالتأكيد على أنه لا يدعى معرفة معمقة بحقيقة الأحداث فى مصر، ولذلك فهو يأمل فى أن يفتح بمحاضرته باب التساؤلات أكثر من أن يضع لهذه التساؤلات إجابات حاسمة، وهى نزاهة من جانب «تشومسكى» تحمد له، وفرصة لنا فى نفس الوقت لكى نتساءل عما إذا كنا قد طرحنا نحن أهم التساؤلات التى علينا أن نبحث لها عن إجابات، أم أننا ما زلنا نخشى الأسئلة لأننا نخشى الإجابات!