ثمة أسباب قوية تفرض وجود وثيقة دستورية جديدة، تتميز عن كل دساتير مصر السابقة فى شجاعتها فى مواجهة مشكلات الواقع المصرى، والغوص فى أسبابها العميقة من أجل إنجاز توافق مجتمعى يشمل الغالبية العظمى من المصريين على عدد من أصول الحكم، تضمن لهم حسن تنظيم حياتهم الاجتماعية والسياسية فى ظل دولة مدنية قانونية تتوازن فيها السلطات الثلاث، ترعى حقوق المواطنة، وتكفل المساواة بين جميع أفرادها فى الحقوق والواجبات دون تمييز فى الجنس أو اللون أو الدين، وتحفظ حرياتهم بما يكفل للجميع حرية الرأى والتعبير والاجتماع والاختلاف، والانتخاب الحر لحكومة تدير شئونهم يراقب الشعب أعمالها، وتنظم جهودهم لبناء مجتمع عصرى ديمقراطى متطور، ينمى قدرات أفراده ويشجع على الابتكار والبحث العلمى، ويحترم حقوق الإنسان، ويصون الإرادة الشعبية فى إجماعها الصحيح ويمكنها من النفاذ، ويضمن تحسين جودة حياة كل فئات المجتمع، ويضع ضمن أول أهدافه ومقاصده محاربة الجهل والفقر والمرض والفساد وكل صور القهر والاستغلال، والإرهاب والتطرف وسوء استخدام الدين. والدستور بهذا المعنى لا يصدر فى فراغ، ولكنه يصدر فى فضاء وطنى يزدحم بالتحديات، ويواجه مشكلات حياتية تمتحن إرادة الأمة بعد ثورتين متتاليتين تكاملت أهدافهما، وتوافقتا على ضرورة تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التى يتطلب تنفيذها إرادة سياسية قوية، تلتزم خيارات واضحة تتوافق عليها غالبية الشعب العظمى. وسواء كانت مهمة لجنة الخمسين تعديل البنود المختلف عليها فى دستور عام 2012، الذى تمت صياغته بليل وعلى عجل، فى ظل أغلبية مصطنعة لقوى الإسلام السياسى لتصبح أكثر قبولاً لغالبية الشعب العظمى، أو نجحت لجنة الخمسين فى تعديل الإعلان الدستورى لتنتج دستوراً جديداً بعد أن ثبت لها أن التعديلات المقترحة لن تفى بحاجات مجتمع انتفض فى ثورتين متتاليتين فى غضون عامين ونصف العام، غضباً من غياب العدل، وسوء أوضاع حياته، وفساد مؤسساته، وقصور أدوات الحكم عن تلبية طموحاته، لأن الأصل فى النصوص الدستورية أن تؤخذ متكاملة مترابطة المعانى فى إطار وحدة عضوية، دون ترقيع ودون تنافر أو تعارض، ولأن الدستور فى صيغته الجديدة لا يستطيع القفز على مشكلات الواقع الراهن، أو تضع بنوده حفنة من النخبة تأمل لوطنها خيراً، ما لم تكن هذه النخبة تمثل قوى المجتمع المختلفة على نحو يضمن لها صدق الإحساس بنبض الشارع المصرى. وأظن أن هذا ما تحاوله بالفعل لجنة الخمسين من خلال لجان الاستماع أو عبر انتقال رئيسها عمرو موسى وهيئة مكتبه إلى عدد من المواقع الحيوية الأكثر التصاقاً بقضايا المصريين وهمومهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا تستطيع لجنة الخمسين أن تمر مرور الكرام على الأسباب التى أدت إلى انقسام المجتمع المصرى خلال فترة حكم جماعة الإخوان على نحو حاد، راجت بسببه دعاوى التكفير لكل رأى مخالف، وجرى استخدام منابر المساجد لترويج دعاوى حزبية وسياسية، حولت المساجد إلى ساحات للصراع السياسى وملاذات للعنف، وقسمت المجتمع إلى فسطاطين، وخلطت بين معايير الدين المطلقة التى يحكمها الحلال والحرام، ومعايير السياسة النسبية التى يحكمها الخطأ والصواب، وأعطت دون حق تميزاً خاصاً لفريق سياسى دون الآخر لأنه يتخفى تحت عباءة الدين، وأفسدت تكافؤ الفرص بين القوى السياسية والاجتماعية، وأضرت بالعمل السياسى كما أضرت بصورة الإسلام. وفى ظل هذه الظروف، لا تستطيع لجنة الخمسين أن تتجاهل أن إصلاح الحياة السياسية وضمان تواصل المسيرة الديمقراطية يتطلبان علاجاً جذرياً يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، بحيث يمتنع قيام الأحزاب السياسية على أسس دينية حفاظاً على وحدة المجتمع، وتجنباً لانقسامه على أسس طائفية ودينية. ويلزم الأحزاب الدينية القائمة بالفعل توفيق أوضاعها فى غضون فترة زمنية محددة، بحيث تصبح أحزاباً وطنية لكل المصريين شكلاً وموضوعاً، وتقبل بالأمة مصدراً لكل السلطات، وتلتزم بعدم استخدام أماكن العبادة لترويج دعاوى حزبية وسياسية، ولا تعطى لأى فريق سياسى ميزة خاصة بسبب العرق أو الجنس أو الدين. وبالمثل، لا تستطيع النصوص الدستورية الجديدة أن تتجاهل أزمة الاختيار التى تواجه الإرادة الشعبية المصرية على امتداد ستة عقود، وهى تجد نفسها محاصرة بين خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن تقبل حكماً عسكرياً أو شبه عسكرى، يستمد شرعيته من بقايا ثورة يوليو بكل ما لها وما عليها، بما فى ذلك عوامل التعرية التاريخية التى نحرت تراثها! وإما أن ترضخ لحكم دينى تفرضه جماعة منظمة تخلط بين الدين والسياسة، وتخفى خلف نشاطها المعلن وجهاً سرياً قبيحاً لا يتورع عن استخدام العنف لفرض إرادتها قسراً بوضع اليد، كما يقول «هيكل»، أو بحكم الأمر الواقع، أو تنتصر الإرادة الشعبية لخيار ثالث صحيح، يأخذ طريق التطور الديمقراطى، ويقبل بدولة مدنية قانونية تخرج الوطن من مأزق المفاضلة بين العسكر والإخوان، وتوسع دائرة الاختيار أمام المصريين، وتحدد مهمة القوات المسلحة الداخلية فى حراسة الإرادة الشعبية وحماية حقها فى حرية التعبير، وتجعل احترام حقوق الإنسان وحرياته وتطبيق أحكام القانون على الجميع شروطاً أساسية لمشروعية الدولة المدنية، ينص عليها دستور عصرى لا يقلص هوية الدولة المصرية فى قضية الدين، أو ينكر عليها مقوماتها الأساسية الأخرى التى تجعلها جزءاً من عالم متطور، لا تقبل العزلة ولا تنكفئ على ذاتها، وتحسن استخدام موقعها الاستراتيجى الفريد لتعزيز وظيفتها التاريخية والجغرافية بأن تكون همزة وصل بين شعوب العالم وحضاراته، تتفاعل مع عالمها، بما يجعل الدستور وثيقة تقدمية تنبض بالحياة، وتولى اعتبارها الأول لصالح الجماعة الوطنية، لا تصد عن التطور آفاقه الرحبة، وتشكل الضمانة الرئيسية لإنفاذ الإرادة الشعبية فى توجهها نحو مثالها الأعلى. وربما يكون من حقنا ونحن نكتب دستوراً عصرياً أن نتساءل: لماذا اتسعت دائرة الفساد واستشرى خطره كالوباء، وبات يأكل معظم عائد التنمية ويغلق الأبواب أمام المستثمرين الجادين، على الرغم من وجود أكثر من ثلاثين جهازاً للرقابة على المال العام؟! وهل يتطلب الموقف إنشاء جهاز جديد فوق هذه الأجهزة؛ يراقبها وينسق بينها كما يقول دستور 2012، أم أن المشكلة تتطلب حلاً جذرياً تنص عليه وثيقة الدستور الجديد، يعطى لهذه الأجهزة استقلالها المالى والإدارى والسياسى الكامل عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويحمى رؤوسها من العزل من جانب السلطة التنفيذية، بحيث يمكنهم محاربة الفساد على نحو جاد، ومراقبة كل مؤسسات الدولة بما فى ذلك الرئاسة والبرلمان، وإنجاز أعمالهم دون إشارات حمراء أو خضراء، كما يمتنع استخدام هذه الأجهزة كأدوات قهر وابتزاز للخصوم السياسيين كما يحدث الآن؟ وفى جميع الأحوال، فإن كل النصوص القانونية بما فى ذلك نصوص الدستور، مهما بلغت دقة تدوينها وإحكام صياغتها، تبقى نصوصاً صماء تنتظر حسن التطبيق الذى يجعلها تنبض بالحياة، إذا ما توافرت الضمانات الصحيحة التى تكفلها آلية قضائية مستقلة تراقب دستورية القوانين، وتقدر على رد عدوان السلطتين التشريعية والتنفيذية على الحقوق والحريات العامة والخاصة التى كفلها الدستور.. ولهذه الأسباب يحسن بلجنة الدستور أن تعيد صياغة نصوص قانون المحكمة الدستورية العليا، بما يعيدها إلى ينابيعها الأولى، ويمكنها من مراقبة دستورية القوانين دون أى قيد تفرضه عليها أى سلطة أخرى.