رؤى برلمانية (4) أتمنى على لجنة الخمسين وأرجوها ألا تقع فى ذات خطأ التأسيسية، فلا تجعل الشعب، والعياذ بالله، يُلدغ مرتين. أقول هذا من أولها، وقبل أن تعمل اللجنة، لكى ننجح هذه المرة فى صناعة الدستور. وأعنى هنا أمرين؛ الأول أن الحوار المجتمعى يجب أن يكون أثناء إعداد الدستور وليس بعد الانتهاء من صياغة مسودته. والأمر الثانى أن المدة التى أشار إليها الإعلان الدستورى مخصصة لعرض الدستور، وليس للحوار حول مسودته، لأن اللجنة لن تجتمع مرة أخرى مهما طالب الرأى العام بأى تعديلات خلال مهلة العرض، وبالتالى فلا معنى للحوار المجتمعى فى هذه المرحلة، وغاية ما يمكن فعله هو الاطلاع على المسودة، لكى نقبلها كلها أو نرفضها كلها. إذن يجب أن يشارك الشعب فى صنع الدستور، وقد يكون ذلك من خلال طريقتين؛ الأولى أن يقوم ممثلو الشعب بالحوار مع الناس فى دوائرهم الانتخابية، فينقلون مواقف الرأى العام إلى اللجنة لتراعيها قبل صياغة مسودة الدستور، والثانية أن تقوم اللجنة ذاتها بفتح حوار مع المجتمع وتستقبل ردود فعل الرأى العام إزاء ما تطرحه من مقترحات دستورية. وما عرفناه فى مصر هو أن «الجمعية التأسيسية» كانت منتخبة بواسطة المنتخبين، ولكنها لم تنجح فى إجراء حوار مجتمعى حقيقى يشفع لها فى نظر الشعب أثناء صناعة دستور 2012، بل إنها صاغت مسودته فى ساعات حتى فوجئ الرأى العام بها. أما ما لدينا اليوم فحاله أصعب، حيث لا يتوافر فيه لا الشرط الأول، لأنه لا لجنة العشرة ولا لجنة الخمسين منتخبة من الشعب. أما الشرط الثانى فلم تحققه لجنة العشرة، لأنها أغلقت على نفسها، ثم قدمت لنا مشروعاً جاهزاً دون أى حوار، ولهذا لم يتبق لدينا أمل فى موضوع الحوار المجتمعى إلا فى لجنة الخمسين، ومن هنا جاء رجائى أن تنجح مصر فى إجراء حوار مجتمعى على دستورها، بما يجعل الناس تشعر أنها شاركت فى بناء الدستور، وأنها على دراية بأهم مكوناته، ثم تترك الصياغة لأهلها، فلا يكتبون ما يحلو لهم أو ما يخدم أحزابهم أو مصالحهم، وإنما يعملون كوكلاء عن الشعب. ثم يأتى السؤال «العملى»: كيف يكون هذا الحوار المجتمعى جاداً ومنتجاً لأثره فى بنية الدستور؟ أقول إن ذلك أمر مرهق، ولكنه مفيد لمصر، وإن نجاح الحوار يتوقف على شرطين؛ الأول أن يسير بالتوازى مع أعمال اللجنة، فلا يجوز مثلاً أن تقرر لجنة الخبراء العمل بنظام الانتخاب الفردى وإلغاء مجلس الشورى، ثم يسارع بعض أعضائها بالهجوم على أى اعتراض على ما فعلته لجنة الخبراء وكأنها منتخبة من الشعب فى استفتاء خاص فلا يملك أحد مناقشتها فيما تقرر فلا تترك للشعب سوى قبول نصائحها هى بفرض أنها فوق مبدأ الحوار! وأخشى أن تفعل لجنة الخمسين الشىء نفسه فتوافق أو تعدّل مشروع الخبراء بقرارها الداخلى وحسب مفاوضات أعضائها. أما الشرط الثانى فهو أن يقتنع الرأى العام أنه قادر على المشاركة فى بناء الدستور، حتى إن ترك الصياغة للخبراء، لأن إعداد الدستور عملية سياسية، ولا يجوز القول بأنها مهنة الخبراء، فى حين أن الشعب هو الذى يحكم على المسودة فى الاستفتاء وإلا اعتبرناه «بصمجى»، وبالتالى يصبح الاستفتاء تدليساً، وفى نفس الوقت، يجب أن يتوقف بعض الناس عن فكرة «اعطها للمستشارين، وأن خبراء الدساتير أدرى بمصلحتنا»، فلا يجوز هذا فى الدستور، لأننا سوف نخضع لهذا الدستور ونُعاقب إذا خالفناه. باختصار، أرى أن الحوار المجتمعى يحتاج إلى أجندة، تحدد الموضوعات التى ستناقش، ومتى، وكيف ستراعى اللجنة الرأى العام بشأنها، لكى يكون الموضوع كله على نور.. وإلا فإننى أظن أن مشروع الدستور سيتعرض لهجوم أشد، مهما روّج له الإعلام الموالى، وسوف لا تصمد فزاعة «لا وقت للنقد لكى لا يعود الإخوان»، بل ربما إن حدث هذا -لا سمح الله- سيكون أبرز خطوة فى عودة اتجاهات أشد ضراوة وأكثر شعبية مما عرفناه.