مكان الميلاد هو مكون أقرب إلى الحياد فى رؤيتى لهويتى، وأنه ليس من العدل إطلاق أحكام عامة شاملة على أهل أى منطقة. عندما بدأت ابنتاى -لما، وسما- تدركان المفارقة فى النكتة كانتا تنقلان ما تسمعان من النكت وترويانه لى ولزوجتى -وهى صعيدية- نبهتهما إلى ذلك، فضحكت الكبرى حرجاً، فقلت لها إن المنايفة أيضاً تقال عنهم نكت، ثم سألتها: ما إحساسك وأنت ابنة لأم صعيدية وأب منوفى، فأجابت بعد ضحكة بريئة وإحساس برىء بالحرج: إحساس شنيع يا بابا! والصور الذهنية للجماعات البشرية موضوع شيق فى الدراسات السياسية والعلوم الإنسانية معا، وكان عهد المخلوع حسنى مبارك -وقبله أنور السادات- فترة من الهجوم المستتر حينا والصريح أحيانا على المنايفة، وبعد زوال نظام مبارك قام محام منوفى برفع قضية يطلب من مبارك تعويضا عن إساءته لسمعة المنايفة واستضافتنى قناة (أون تى فى) للتعليق على القضية، فاستعنت بقصيدة رائعة للشاعر الساخر الكبير الدكتور صلاح الدين عبدالله يقول مطلعها: دخول النار أو طعن السيوف أحب إلى من بيت المنوفى وهذه الصورة للمنايفة فيها الحق والباطل معا ولها جذور فى البنية الاجتماعية للمنطقة، فالرقعة الزراعية الضيقة ومعدل الخصوبة العالى خلقا حالة من الندرة مع تقسيم الحيازات الزراعية إلى مساحات أصغر فى كل مرة تنقل بالميراث من جيل إلى جيل، ومع الوضع الاقتصادى الصعب وارتفاع مستوى التعليم، حتى قبل مجانية التعليم بعد يوليو 1952 أصبحت الوظيفة الحكومية والتطوع فى القوات المسلحة طريقا مألوفا للترقى الاجتماعى وأصبح نصيب المنوفية من هذين المجالين أكبر بكثير من نسبة سكانها لسكان مصر. وبسبب افتقار المنوفية لظهير صحراوى عكس كثير من محافظات مصر، أصبحت أحد أكثر مصادر الهجرة الداخلية طردا للسكان -وتنافسها فى هذا محافظة سوهاج- ومع اعتزاز كثير من أبناء الريف بأصولهم، أصبح المنايفة خارج المنوفية أقرب إلى الجالية وأصبح كثير منهم يعتزون بهذا الأصل، وإن كان بعضهم يخجل منه!! وخلال عهد مبارك كانت المحافظة التى حظيت بالنصيب الأكبر من المناصب السياسية المرموقة هى الدقهلية، ورغم هذا استمرت النكت تؤكد أن مصر هى «جمهورية المنوفية»، وظل الربط بين المنايفة والسلطة فى الثقافة السائدة ربطا شائعا. وعندما احتدمت المنافسة حول منصب رئيس الجمهورية كانت النسبة الكبيرة التى حصل عليها الفريق أحمد شفيق فى الجولة الأولى من ناخبى المنوفية مما لفت نظر بعض المراقبين وربطوا بينه وبين ميراث عهد مبارك وبخاصة النفوذ الاستثنائى للوزير الأسطورى كمال الشاذلى. وعندما انتهت المرحلة الثانية من الانتخابات بهزيمة الفريق أحمد شفيق، خرجت جريدة محلية منوفية من الواضح أنها محسوبة على بقايا نظام مبارك بعنوان تصف فيه المنوفية -على محمل الفخر- بأنها «بلد المليون شفيق»! وما يفخر به الناس أو يخجلون منه متفاوت فى التقدير وأحيانا تتناقض بشأنه التقديرات، والصور النمطية فى العلاقات داخل المجتمع الواحد لا تقل أهمية عن الصور النمطية فى العلاقات الدولية، وعندما كتب مجهولون/ معلومون، لافتات تهاجم أهل بورسعيد الباسلة بسبب جريمة استاد بورسعيد تقول: «بلد البالة ما جابتش رجالة»، كان هذا نذيراً، ليس من الترف أن ننتبه إليه ونتوقف عنده، إلى حقيقة أن الصور النمطية كما تعكسها النكت والإفيهات الساخرة يمكن أن تكون طريقا إلى ما هو أخطر من المشاعر السلبية. وأنا شخصياً على قناعة بأن مكان الميلاد هو مكون أقرب إلى الحياد فى رؤيتى لهويتى، وأنه ليس من العدل إطلاق أحكام عامة شاملة على أهل أى منطقة، لا المنوفية ولا غيرها. وأتساءل حائراً: هل يجب أن أفخر بمنوفيتى أم لا؟ وبخاصة أننى لا أفخر أبداً بأن يكون مسقط رأسى «بلد المليون شفيق»!