وأنا مراهقة شاهدت فيلم عرق البلح لأول مرة، ولكني لم أدرك معانيه جيدا، لم أفهم إلا أنه خلق لدي شعور بالحزن والانقباض لم أستوعبه حينها، احفتظت ذاكرتي بأغنياته المؤلمة، التي تنذر بتوابع الفاجعة، مرثية لكل من أخذهم الغياب بعيدا، كل جنازة تمر أمامي يتردد صوت ينوح "يا برج عالي في طريق الواحة لما وقع شت الحمام وراحا". كل القرى تتشابه، ومآسي نسائها تتكرر، الأفراح ومظاهر الحياة والحماية تختفى باختفاء الرجال، غيابهم يكسر قلوب النساء ويتركها صحاري، تطل شمسها مرعبة حارقة، مخلفة رماد خانق تثيره خطواتهن المقيدة البطيئة، تغلف أيامهن سحابة سوداء، يتندر الناس بسخرية في قريتي أن رجال القرية يموتون أكثر من النساء، أترقب سماع صوت المنادي فلا أجد ما يقولونه حقيقي، إن عدد النساء اللاتي يمتن ضعف عدد الرجال، نساء يمتن مثل الرجال، ونساء يمتن بموت الرجال. في منتصف الليل كان أبي يعود من عمله في المدينة، محملا بعلب الحلوى، يجود علينا ببعض أشياء المدينة المرفهة، التي لم تعرفها القرية بعد، يقول لأمي أيقظيهم جميعا بسرعة، تطيعه مرغمة، فلا داع لجدال بلا فائدة كل يوم، أربع فتيات صغيرات نصف نائمات، وأمهم حول العلب المفتوحة والرجل الذي يشعر بالإنهاك، أختار أنا قطعة جاتوه بالشكولاتة وأمضي لاستكمال نومي، ينام أبي قرير العين، ممتن للحظات السعادة تلك، يقضي أغلبية ساعات يومه في عمل يدر القليل ويحرمه من ونس الأسرة، يبذل قصارى جهده فى أن نكون دائما في أحسن حال، كان يأخذنا قبل الأعياد للقاهرة ونعود محملين بملابس جديدة، لا تشبه ملابس باقي بنات القرية، قبل وفاته بثلاث سنوات أصيب بمرض ألزمه الفراش، جاء العيد وقد اشتريت فستانا لا يعجبني من متجر في قريتنا، فى الصباح وقفت أمام المرآة الوحيدة المعلقة في غرفة أبي النائم، غير راضية، أقنع نفسي بالثوب ثم مضيت على الرغم مني للخارج مع أخواتي، حكت لي أمي أن أبي كان متيقظ وبكى عندما خرجت، قال لأمي أدمت قلبي الفتاة، شعر بالعجز لأني غير سعيدة، وددت لو لم أسمع منها تلك الحكاية أبدا. "بيع النخيل يا أحمد على ولبسني كرداني" عمل أبي في العراق قبل زواجه من أمي، بنى بيت بحديقة صغيرة فى قريتنا، وضع فيه كل أمواله، زرع فى الحديقة ثلات شجرات، العنباية التي تتسلق التكعيبة وتصنع سقفا للجزء المكشوف من المنزل، وشجرة ليمون وشجرة ياسمين أبيض يقع نصفها خارج سور الحديقة القصير، فتمنح الشارع الضيق عطرها السخي، زرعنا بعدها أبي في الأرض مثل شجراته الثلاث، ثم أختبأ سريعا في عالم آخر لا تدركه الأبصار، مخلفا تمزقا مفاجئا في الأسرة، رجل أمي الذى غطى جسدها النحيل بملابس ذات ألوان زاهية، انتزع منها هذه الألوان وأبدلها عباءة سوداء طوال العمر، نسى أن يعلمنا كيف نعتني بأشجار الحديقة فماتت، كلما عاودنا زراعة أشجار الورد، تنبت وردة وحيدة ثم تقع الوريقات واحدة تلو الأخرى، قطعنا شجرة الليمون الذابلة وأكلت الحشرات الصغيرة جذور شجرة الياسمين والعنباية، تسللت الشمس الحارقة من التكعيبة الفارغة، لم يبقى من الحديقة إلا النخلة المرسومة بالطباشير الأبيض على أحد أسوارها بأيدي فتاة كانت تتمنى أن يضمها الأب لباقي الأشجار، صمدت النخلة المرسومة على الجدار وقاومت كافة عوامل الزمن بينما اختفت الأشجار الحية.. نخلة وحيدة فى الحديقة لا ظل لها. "يا أحمد على يا أحمد على النخل راح ضله.. بيع النخيل يا أحمد على.. بيع نخلنا كله" قبل وفاة زوجي بأشهر حلمت أني أمشي مع أمي الأرملة في الطريق شبه عارية، أرتدي قطعة قماش سوداء من جلبابها، تغطي القطعة ظهري إلى الركبة وتكشف الصدر والذراعين، عدت من منتصف الطريق، لم تعترض أمي لعلها تراني عارية كما أرى نفسي، أحاول أن أسلك طرق خالية من العيون، لا أخطو خطوة إلا وألتفت يمنا وشمالا، مقيدة وحائرة بجسدي العاري، والطريق للمنزل طويل،. "بيبه خلف بنات.. بيبه" منذ عام كنت في رحلة مع ثلات فتيات، كنا غرباء وسط المجموعة المبهجة، أربع شابات قرويات وحيدات بين العائلات، نحمل ارتباك أطفال صغار ينتظرون التوجيه في الأفعال والتصرفات، ننظر لتلك الفتاة السكندرية الصغيرة التي جاءت مع زوجها، تضحك مع الكل وترقص وتجري وتمرح دون تكلف، زوجها يصورها بكاميرا فى يده، اشتركت فى جميع المسابقات وفازت، ضاع جزء من بهجة الرحلة فى تكلفنا الذى لا يليق بالرحلات، والخوف من أفعال ربما يسيء فهمها البعض. "وزرعناكي يا شمس ضلة وان غاب راجلنا ما يغيب ضله" طبيبة صغيرة مات زوجها الطبيب الشاب فى الغربة، بعد فترة زواج قصيرة، توارت فى ملابس الحداد السوداء سنوات، تعاني آلام الفراق ووحشة الوحدة دون رفيق وحبيب، يراقبها القاصي والداني فى كل شيء تفعله، بدلت اللون الأسود مرات برفاقه الرصاصي الداكن والبني، استنكروا ما فعلت.. أين الوفاء؟ همس أحدهم "تنوي الزواج وأبنها؟ يا للنساء!"، نظرت لملابسها فى المرآة، أهذه ملابس فرح و زواج و إقبال على الحياة؟ كأن اللون البني مصيبة، والزواج لو فكرت به عار، نفت التهمة المشينة عن نفسها وعادت لملابسها السوداء. "نوح يا غراب ع اللي قتلته الغربة.. نوح يا غراب ع اللي قتلته الغربة" أتذكر "شفا"، العمة "شفا" الجميلة وشعرها الطويل الأسود في "عرق البلح"، ورقصتها المليئة بالرغبات المخبئة في قلوب النساء وسط نظرات الاستنكار ونظرات الطمع، ماتت محترقة بنار جمالها ونار الانتظار ونار العادات التي لا تغفر زلات النساء، حاوطتها نساء النجع عندما غنى رجال النجع المجاور (النجع فاته الرجالة والطبال نط على حيطانه )، وضعت إحدهم حزمة حطب فى النار التى أمامها فاستسلمت لها كما استسلمت لنار رغبتها. " وصيت عليا مين.. وصيت عليا مين.. وسافرت يا محبوبي وصيت عليا مين.. وصيت عليكي السيد ورب العالمين.. زعق الوابور ع السفر أنا قولت رايحين فين.. رايحين تغيبوا سنة ولا تغيبوا اتنين" تنفرد الجدة بنفسها بعد ساعات قضتها فى زيارات الأولاد والأحفاد للاطمئنان على أحوالهم، في غرفة تكاد تخلو منها الحياة، إلا من أنفاس سيدة عجوز تتردد، بعد صخب النهار تقتلها وحشة الليل وسكونه، على سريرها تتقلب مع الذكريات، ذلك المزيج المدهش من السعادة والشقاء، من الوحدة والألفة، من الأشياء التي كانت ولم تعد، لكنها محفورة فى القلب والعقل، مثل تلك الصورة ذات الشريط الأسود المعلقة على الجدار، حقيقة أم خيال، كيف تبدو العينين بهذه القوة مع أنها لم تعد حية.. سنوات مضت على الوداع الهادئ، رضيت بالراحة لجسده المنهك بعد الرحلة الشاقة، ودعته كما ودعت زاد الخير وليفها في عرق البلح بكلمات راضية "مع السلامة يا سيدي.. مع السلامة يا أخويا.. مع السلامة.. مع السلامة يا أبويا.. مع السلامة يا ولد عمي.. مع السلامة يا حبيبي.. مع السلامة مع السلامة".