في الطريق إلي هناك، تجتاحني سعادة غريبة، أشعر أنني كطفل صغير، يهرع إلي حضن أمه، هذا العيد يبدو مختلفا، حزينا، كئيبا، لا أري فيه جمال الألوان التي تعودتها، حوائط البيوت مكسية بالسواد، ملابس الأطفال الصغار، حتي مياه الترعة وأشجار النخيل. عندما وصلت إلي بلدتي في أقصي جنوب الصعيد، لم أر سوي صورة واحدة، صورة أمي وهي تستقبلني أمام المنزل بابتسامتها الجميلة، فاتحة ذراعيها، لتلقي بجسدها النحيل في حضني، وتأخذني إلي داخل الدار، وكأنها تمنحني جواز العبور إلي جنة الحياة. في هذه المرة كان الوضع مختلفا، إنه العيد الأول بعد الرحيل، افتقدت طعم الأشياء، ولم أعد أر سوي لون واحد في البشر والطبيعة، كانت عيناي تتجولان أنحاء البيت، لعل وعسي، أمضي سريعا إلي غرفتها، أبحث في أركانها ربما كانت منكبة في ترتيبها وإعدادها، أمضي إلي حيث حديقة المنزل، من يدري، هنا كانت جلستها المفضلة، هذه أريكتها، لكنها تشكو ألم الفراق. أودّ أن أسأل الجيران وكل من كان يعرف وجهتها، أين أمي، لماذا اختفت فجأة، وقد كانت تملأ الدنيا بهجة وحياة، أمضي إلي المقابر في ساعة مبكرة من الصباح، هنا ترقد أمي، وهنا يرقد أبي، وهنا دار الحق، أنتحي جانبا وأجلس وعيناي تتجهان صوب حفرة يتجاور فيها جسدها الطاهر إلي جوار أبي، أدعو لهما، ارتاح للجلوس إلي جانبيهما، ثم أمض إلي حيث دار الأيتام، هنا أجد نفسي، وسعادتي، هؤلاء هم الوحيدون الذين كانوا يأخذونني من ساعات قليلة كنت أمضيها إلي جوار أمي في الرحلات العابرة مجيئا وذهابا. أتأمل شوارع بلدتي، تغيرت ملامحها كثيرًا عن ذي قبل، لا أقوي علي فراقها، لا يمضي شهر واحد، إلا وأكون حاضرا في ساحتها، مازلت أتذكر أسماء أهلها، كانت أمي توصيني دائمًا منذ الصغر: إوعي تنسي ناسك يا وليدي، وناسك هم كل أهل بلدك. يوم زواجي في عام 87، وقفت إلي جواري، وكأنها تسدي لي النصيحة، هناك في قريتي، جرت المراسم، بإطلاق الرصاص في جمع كبير بدا وكأنه موتمر شعبي وليس حفل زواج، كانت أمي سعيدة، وهي تري أن ابنها البكري، قرر أن يفارق حياة العزوبية بعد أن بلغ من العمر حوالي ثلاثين عاما، معدل الزواج في بلدتي كان بين 18 و25 عاما، قالت لي يومها 'دلوقتي اطمنت عليك، روح يا وليدي لاطوبه تسطك ولا شوكة تدقك'. كانت أمي تحدثني بين الحين والآخر 'هي مرتك لسه مجبتش ليك حتة عيل ياوليدي، والله نفسي أشوفه قبل ماموت'، كان ذلك منذ زمن طويل، مضت الأيام، وجاء الأبناء وجاءت الحفيدة، كم كانت سعيدة، وهي تسمع أن ابنتي الكبري قد أنجبت طفلة جميلة، كانت مهمومة بكل شيء، كأنها مازالت الراعي الرسمي لنا جميعا رغم أننا كبرنا وأصبحنا مسئولين عن أبناء وأحفاد، لكنه قلب الأم. في اللقاء الأول مع أطفال بلدتي من الأيتام، بعد رحيلها بنحو أسبوعين، كنت أحدثهم وأوصيهم بأمهاتهم، أدعوهم لاستثمار كل لحظة، وعندما قلت لهم 'بعد رحيل أمي أشعر باليتم الكبير 'انهمرت الدموع من عينيّ، وحاولت ألملم نفسي، ولكن بدا الأمر أكبر من طاقتي. يومان قضيتهما في بلدتي، لم يفارقني وجهها، أصحو ليلا، أبحث عنها في صالة المنزل، حيث كانت تصر علي أن تبقي يقظة حتي الصباح، وكأنها ترعاني وأنا أغط في نوم عميق. في مساء اليوم التالي قررت المغادرة إلي القاهرة، انتظرت حضنها، ودموع عينيها التي كنت أجففها ساعة الرحيل، ركبت السيارة، نظرت إلي باب المنزل، علها تفاجئني وتخرج، وتقول لي لا تقلق أنا هنا، لم أبرح منزلي، وأمضي إلي القبور، لكن السائق أدار محرك السيارة، ومضينا بعيدا، بينما بقيت أنا غارقا في الذكريات، وكان وجهها لا يريد أن يفارقني حتي الرمق الأخير